في ظهيرة يوم عادي في منتصف كانون الأول (ديسمبر) الماضي، تم وقف رحلة مقررة إلى طوكيو عبر قطار طوكيو إكسبرس متجهة إلى ناجويا، وتم إنزال ألف مسافر من القطار لقد تبين لاحقا أن رائحة الاحتراق والصوت غير الطبيعي كان سببهما وجود صدوع في هيكل القطار.
كانت تلك المرة الأولى التي يقع فيها قطار شينكانسن، رمز القوة الصناعية الأقوى للبلاد والجودة الهندسية المتمثلة في عبارة "صنع في اليابان"، أمام حادث اعتبر رسميا أنه "حادث خطير".
في الماضي، كان وجود الشقوق أمرا لا يمكن تصوره، فقد كانت اليابان - جنبا إلى جنب مع العالم الخارجي - منذ زمن طويل مهيأة للتفكير في الصناعة التحويلية اليابانية بأنها صناعة لا يمكن أن تكون عرضة للانتقاد. بعد التعرض لسلسلة من الفضائح المختلفة، أصبحت مشكلة اليابان هي أن العيوب لم تعد مستحيلة التصور كما كانت الفكرة السائدة.
هذا التوقف المفاجئ للقطار السريع كان تتويجا لشهور من الاعترافات العامة المقدمة من قبل عدد من ألمع الأسماء في سماء اليابان - بما فيها شركات نيسان موتور وسوبارو وتوراي للصناعات وكوبي ستيل وميتسوبيشي للمواد - بأنها إما كانت تغش في اختبارات الجودة أو تزور الوثائق من أجل بيع منتجات ذات جودة أقل مما هو مذكور.
وقد ولد ذلك تساؤلات عديدة حول إمكانية الاعتماد بشكل عام على صدق الشركات اليابانية تم تلفيق البيانات حول مواد مستخدمة في كل شيء، بدءا من طائرات شركة بوينج ومحطات الطاقة النووية، وصولا إلى صواريخ الفضاء والملابس الداخلية الحرارية يونيكلو كما تم تجريد مصانع كثيرة من شهادات المقاييس الصناعية اليابانية، وشعر الرؤساء التنفيذيون بأنهم مضطرون لتقديم اعتذارات كثيرة. بالنسبة لاقتصاد صناعي بنى اسمه العالمي بسبب سمعته في مجال الجودة، فإن العصر الحالي مرهق للأعصاب إلى حد كبير.
لم يكن يعتقد أي أحد أن الشركات اليابانية كانت أكثر صراحة من الناحية الجوهرية من نظيراتها في جميع أنحاء العالم، بحسب ما يقول أحد التنفيذيين السابقين في شركة توشيبا، إلا أنه كان هنالك افتراض داخل اليابان وخارجها على حد سواء، بأن جميع من كان يعمل في المصنع كان مكرسا لإنجاح مونوزوكوري، الطابع الحرفي الذي يمثل ما يقال إنه أكبر مصدر للفخر لدى الشركات اليابانية. وقال: "هذا الافتراض هو الذي تلقى أكبر ضربة".
عندما اعترف لأول مرة هيرويا كاواساكي، الرئيس التنفيذي لشركة كوبي ستيل بأن الشركة تشارك في عملية تزييف بيانات يعود تاريخها إلى السبعينيات، كان بيانه أشبه بالنبوءة. حيث قال: "انخفضت نسبة الثقة بشركتنا إلى الصفر".
يرى المراقبون المخضرمون لليابان الفضائح على أنها تعبير عن تحولات أساسية، تمكنت من أن تتجنب الكشف حتى الآن.
يقول نيكولاس بينز، مستشار ساعد في كتابة قانون حوكمة الشركات في اليابان عام 2015: "قد يكون هذا هو بداية انهيار الإطار التنظيمي الذي تستطيع الشركات اليابانية من خلاله أن ترتكب أخطاء تتعلق بالجودة وليس الربح" وسط مثل هذه التكهنات المثيرة، لا يزال هنالك عدد من التساؤلات المهمة. هل هذه المشاكل نظامية؟ وهل هي يابانية بحتة تحت أي مسمى؟ ولماذا يظهر الآن الكثير من تلك القضايا إلى العلن بشكل مفاجئ؟ هل ينبغي الإنحاء باللوم على المصنع بحد ذاته أم على مجلس الإدارة؟ وهل يمكن حل هذه المشكلة من خلال إصلاح قانون حوكمة الشركات؟
يقول التنفيذيون والباحثون الأكاديميون والمحللون المخضرمون في تاريخ الشركات اليابانية، إن هنالك حجة قوية بأن تلك الفضائح كلها ما هي إلا أعراض لأمراض شائعة، لدى مجموعات كبيرة من الشركات في اليابان.
يتوقع كثيرون أنه سيحصل المزيد من الفضائح. غرف الدردشة الإلكترونية المغْفلة تعج بالنقاشات، كما لو أنها مدفوعة بتدفق فضائح عامة كبيرة، حيث يدعي موظفون وجود إخفاقات مماثلة في عملية الرقابة الداخلية، وخداع في شركات موجودة في كافة أنحاء اليابان.
ما يعمل على تعميق حس المؤامرة، أن الشركات اعترفت بوجود خداع وغش أيضا إن ذلك موجود منذ سنوات، وفي بعض الحالات منذ عقود. هنالك وقائع من الصعب تفسيرها. يقول الخبراء إن الفضائح تعني ضمنا وجود استعداد مؤسسي لمخالفة الأنظمة داخل مؤسسات تفخر بنفسها تحديدا، كونها مؤسسات متمسكة بشكل حرفي بالقواعد.
نوبويوكي آيدي، أحد أبرز الصناعيين في البلاد ورئيس سابق لمجلس إدارة شركة سوني، يعبر عن تسليمه بالأمر ويوافق على أن الفضائح أدت إلى إثارة الكثير من التساؤلات أكثر من تلك التي تمت الإجابة عنها.
"ما هو واضح هو أن مسؤولية الجودة قضية تتعلق بإدارة الشركة، ولا سيما عندما تعتمد سمعة المنتجات المصنوعة في اليابان على الجودة. نحن بحاجة إلى موقف تكون فيه أهمية كبير إداريي الجودة ، من بين كبار التنفيذيين في الشركة، مساوية لأهمية كبير الإداريين الماليين. إلا أننا لم نصل إلى هذا المستوى بعد".
في الوقت الذي يحرص فيه البعض على تصوير تلك الفضائح على أنها قضايا منفصلة، والتقليل من أهمية هذه الفكرة وكونها أزمة وطنية، صرح عدد من أبرز رجال السياسة في البلاد بشكل علني بخلاف ذلك.
يوشيهيدي سوجا، وزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، قال في مطلع كانون الأول (ديسمبر) الماضي، إن الفضيحة الأخيرة في شركة توراي للصناعات تعمل على زعزعة "أساس التجارة العادلة" وقال كيتشي آيشي، وزير الأراضي والبنية التحتية والنقل والسياحة، في الوقت الذي ظهر أن فضيحة التفتيش في شركة نيسان تسبب "القلق للسائقين وتزعزع أساس نظام إصدار شهادات السيارات".
سادايوكي ساكاكيبارا، رئيس اتحاد الشركات كيدانرين وكبير مستشاري شركة توراي، وصف حالات الفشل في الرقابة على الجودة بأنها ظهرت إلى العلن على أنها موقف خطير يمكن أن يؤدي إلى تآكل المصداقية الدولية، إضافة إلى ثقة الشعب الياباني بالشركات اليابانية.
نوبو جوهارا، الذي يرأس شركة الاستشارات الرائدة في مجال الامتثال في اليابان، واثق تماما بأن المزيد من الفضائح في سبيلها إلى الظهور - ويرجع ذلك إلى حد كبير إلى أنه تجري دراسات بناء على طلب بعض الشركات اليابانية الكبرى، التي ترغب تحديدا في استئصالها قبل وصولها إلى النطاق العام.
يقول جوهارا "نحن نوزع استبيانا للجميع ونخفي فيه السؤال: هل هناك شيء يحدث حولك في العمل ولا تريد أن يظهر إلى النور؟ هذا السؤال له تأثير مدهش. لن تصدق ما يخبروننا به".
اليابان ليست غريبة على انهيارات السمعة. بين عامي 2012 و 2015، عانت شركات أوليمبوس، صانعة المنتجات البصرية، وتاكاتا، صانعة الوسائد الهوائية، ثم تكتل توشيبا، عن فضائح تراوح بين الاحتيال المحاسبي على نطاق الشركة، وصولا إلى تستر هائل على السلامة نتجت عنه وفيات عديدة.
من الناحية النظرية على الأقل، يبدو أن موجة الفضائح الأخيرة أقل خطورة. وعلى الرغم من تأثر مئات المنتجات، لم تظهر بعد قضايا تتعلق بالسلامة من السلع التي سبق أن بيعت من قبل شركات كوبي ستيل، وتوراي وغيرها؛مثل سيارات نيسان وسوبارو التي شحنت دون ختم مفتش معتمد بالكامل اجتازت بنجاح جميع المعايير الدولية.
وحتى على المستوى التجاري البحت، يبدو أن الأزمات يمكن التحكم فيها: في حالة المصنعين الذين يزورون بيانات جودة المنتجات، تمثل الشحنات أجزاء يسيرة من 1 في المائة من المبيعات السنوية في قسم واحد من الشركة.
على أن المسألة هي لم تظل قضايا الاحتيال محورية إلى الآن؟ يغلب على ظن البعض أن هذا نتيجة لضغوط مكثفة لتحقيق الأرباح. عندما كشفت شركة توراي عن تزوير البيانات حول مواد الإطارات، ربط أكيهيرو نيكاكو رئيس الشركة ورئيسها التنفيذي وكبير الإداريين التشغيليين القضية بـ"الضغط لتحقيق أهداف الإنتاجية".
يقول بينز إن كثيرا من الشركات يبدو أنها خففت موقفها بشأن الجودة بدلا من إيجاد طرق لخفض التكاليف أو التخلي عن المنتجات غير المربحة. ويضيف: "يتساءل كثير من الناس عما إذا كانت هذه الشركات لها مكاتب رئيسية بعيدة جدا عن مراكز الإنتاج، وعما إذا كانت معقدة إداريا ومبسطة جدا في الطريقة التي تستجيب بها لزيادة ضغط الأرباح من المنافسين الآخرين في العالم. يبدو أن شيئا أساسيا قد كسر في هذه المنظمات".
لا يوافق الجميع على ذلك. يقول نيكولاس سميث، استراتيجي في طوكيو لدى شركة الوساطة :CLSA "هذه الشركات لجأت إلى بعض الاختصارات، وغالبا ما تقول جمعيات الأعمال إن السبب في ذلك هو أن هناك ضغوطا مفرطة تنصب عليهم. حقا؟ ليس هناك ما يكفي من الضغوط عليهم: معظمهم لم يحققوا أي عائد مطلقا على حقوق الملكية. وأود أن أقول إن الناس كانوا صبورين بشكل لا يصدق مع تحقيق عوائد منخفضة من الشركات اليابانية".
يعتبر آخرون أن التزوير هو استجابة للقوانين التنظيمية المرهقة المتعلقة بالجودة، تم فرضها من قبل ما يصفها أحد التنفيذيين في شركة لصناعة الصلب بأنها: "وزارة تجارية غير واقعية وفاقدة الصلة بالواقع ومغالية في المحافظة".
وهناك احتمال ثالث وهو أنها أعراض لعلاقات القوة المنحرفة ضمن التسلسل الهرمي للعميل والمورد الذي يدعم القاعدة الصناعية في اليابان.
يقول تاكاهيرو فوجيموتو، رئيس كلية الدراسات العليا للإدارة في جامعة طوكيو، إنه يمكن العثور على هذه المشاكل في أي مكان في العالم.
ويضيف: "إذا كانت مواصفات المنتَجات المطلوبة مفرطة، كان ينبغي على شركة كوبي التفاوض مع شركات العملاء للتغيير، طالما أنها يمكن أن تعطي ضمانات بأن الجودة عالية بما فيه الكفاية حتى بعد تخفيض تصنيفها.
ذلك لم يحدث بسبب الطريقة التي تعمل بها السلطة هنا. ما هو الياباني الفريد في هذا؟ الوسيط ما بين الشركات هو الضمير"، وهو أمر نسبي لا يعتقد فوجيموتو أن الفضائح يمكن أن تستخدم لإثبات انخفاض جودة التصنيع في اليابان، حيث إنه طوال الوقت الذي كانت تجري فيه، كان مثل هذا الانخفاض سيبرز إلى العلن على شكل فشل روتيني للمنتجات.
ومع ذلك، كما يقول، من الواضح أن هناك قضية نظامية ضمن ثقافة أوسع نطاقا لدى الشركات، الأمر الذي سمح بأن يصبح انتهاك القواعد هو الأمر الطبيعي وتستخدم مجموعات صغيرة ومتخصصة للغاية من مهندسين يعملون في مراقبة الجودة للحفاظ على الأسرار التقنية، وهم في نواح كثيرة في المكان المثالي لخلق حلول أساسها مخالفة القواعد للتحديات الكثيرة - بما في ذلك التنظيم وأهداف الربح - التي يواجهونها.
يقول فوجيموتو: "ما تخبرنا به هذه الفضائح هو أن هناك شبكة من العواقب غير المقصودة. هذا يجعلك تعتقد أنها كلها خطة رجل ذكي كبير. وهي ليست كذلك. الأمر كله يتعلق برجال صغار لديهم دوافع صغيرة".
هذه الأطروحة ترتبط بدقة، كما يقول خبراء آخرون، بمسألة سبب ظهور كثير من الفضائح الآن. إصلاح الحوكمة، حيث أصبح الكشف عن الممارسات السيئة أكثر قبولا، ومجال التواصل الاجتماعي الذي أصبح منتدى للإبلاغ عن المخالفات من أرضية المصنع، خلق بيئة مثالية لإثارة هذه المظالم.
وتؤدي التغيرات في سوق العمل المحلية دورا مهاما أيضا: المصانع تمتلئ باطراد بعمال متعاقدين، لديهم هواجس أقل بشأن الإبلاغ عن الممارسات السيئة.
يقول جوهارا، مستشار الامتثال، إن هذه الفضائح بدأت تظهر الآن لأن وسائل الإعلام الاجتماعية أثارت تحديا ملحميا لـ: "غموض" المجتمع الياباني - وهو قرار غير معلن عنه يدفع إلى القول: "دعونا لا نواجه مشكلة، دعونا نلتزم الصمت حيال ذلك".
التزوير الروتيني للبيانات من قبل الشركات يصطدم مع الغرائز الطبيعية لموظفيها للتصرف بحسب بالقواعد. يقول جوهارا: "إنهم يكرهون ذلك. هم يكرهون كسر القواعد، وكلما أصبحت القوانين التنظيمية أكثر تشددا، فإنهم يكرهون الكذب على استمارات تبدو أكثر جدية باستمرار".
حتى لو كان هذا الواقع مفهوما بشكل جيد داخل الشركات، فإن غرس الإدارة اليومية للمؤسسات، والقيود والتشوهات التي ينطوي عليها نادرا ما تناقش في العلن.
يقول كازو ايشيجو، عميد كلية الدراسات العليا في استراتيجية الشركات الدولية في جامعة هيتوتسوباشي، إنه لا يزال هناك "شيء غامض" في أعين كثير من الغرباء حول الشركات اليابانية بسبب "افتقارها للشفافية والاتصال الفعال" ويقول "التنفيذيون اليابانيون سيئون جدا في التواصل بشأن كل شيء حول شركاتهم، فهم لا يفسرون ما يقومون به، ولا يتواصلون بشأن عملياتهم، أو فلسفتهم".
واعترف التنفيذيون في شركة كوبي للفولاذ بأن الثقة بهذه الشركة الصانعة للفولاذ "هبطت إلى الصفر" بعد ظهور اعترافات بأنها كانت تزوّر البيانات منذ عقود.
أرسل تعليقك