القاهرة ـ أ ش أ
فيما يكشر الإرهاب عن أنيابه بعمليات إجرامية نوعية ويفصح عن حقيقته كخادم وعميل مأجور للقوى التي لا تريد خيرا لمصر وأمتها العربية تنهض الثقافة الوطنية المصرية بدورها الإبداعي - التنويري كما تجلى في الندوة التي أقيمت في المقهى الثقافي بمعرض القاهرة الدولي للكتاب لمناقشة رواية "السلفي" للدكتور عمار علي حسن.
وعبر عتباتها الواحدة والعشرين تجيب رواية "السلفي" عن كثير من أسئلة اللحظة المصرية والعربية فيما يرتقي مؤلف الرواية عمار علي حسن تلك العتبات ويغزل نسيجه الروائي من خيوط مصرية أصيلة، فإذا بالرواية هي "عتبات الحكمة" وكشف المخبوء.
ومن هنا حق للناقدة الدكتورة سامية حبيب أن تقول في هذه الندوة، التي أقيمت أمس الأول، "إن ما يحدث الآن في مصر من استقطاب فكري لقطاع من المجتمع لابد أن يناقش بحجة أدبية قوية معيدة للأذهان أن عمار علي حسن من أصحاب الأسلوب الخاص في الكتابة.
فالأب - كما توضح الناقدة سامية حبيب - يناقش في هذه الرواية ابنه الذي انتمى للفكر السلفي المتطرف بالمنطق والحجج، وهذا لابد وأن يكون طابع المناقشات والحجج داخل مجتمعنا، مضيفة أن هناك مناخا أسطوريا للرواية وهو شكل من أشكال التجديد.
غير أنه مما يؤسف له بقدر ما يثير تساؤلات حول "المشهد النقدي في مصر والعالم العربي" هذا التغافل الغريب عن التجديد والابتكار في بنية الرواية العربية، كما يتجلى في أعمال عمار علي حسن، وخاصة في روايته "السلفي".
فالدكتور عمار علي حسن يبتكر في روايته الجديدة تقنية أو بالأحرى "آلية إبداعية جديدة" هي "العتبات" ليقدم للقاريء عبر 21 عتبة نسيجا روائيا متقنا امتزج فيه الزمان بالمكان، فيما مقدمة كل "عتبة" منسوجة من لغة تنزع نحو المطلق وكأنها تود معانقة الحق، وهي تكشف حقيقة الابن الضال الذي ضلله ظلاميون وخطفوا روحه ليتحول الى مجرد بندقية تطلق النار وتنشر الدمار في جبال بعيدة وصحاري الدم والهلاك.
انها "عتبات مصرية" لبيوت في بلدة صعيدية بأرض الكنانة تشكل حكايات تعيد للحكي اعتباره كمتعة روائية بقدر ما تبني عالما روائيا وفضاء ابداعيا يحلق فيه الكاتب حتى جبال أفغانستان ويجيل البصر في صحاري ليبيا باحثا عن حقيقة الابن الضال الذي خرج من ارض طيبة ثم خرج عليها صانعا ثأرا قد لا يكون ثأرا أصلا ومخلفا أسئلة الوجع ونار الوجيعة!.
ولئن كانت "العتبة" مفردة مصرية وعربية حميمة وحاضرة في لغة الضاد فإن عمار علي حسن الذي ابتكر "آلية العتبات" كبرزخ واصل بين دار الباطل ودار الحق وبين النسبي والمطلق وبين الضلالات وأنوار الحق لم يكن له إلا أن يستخدم لغة تشف أحيانا وتكاد تحلق بأجنحة الشعر لتستقر بشهد العذوبة في روح القاريء ووجدان المتلقي، وهي في الواقع لغة مستمدة من نسغ شجرة عربية اسلامية مباركة .
ومع "آلية العتبات" كتكنيك روائي جديد مستمد من اعماق التراث الأصيل للأمة يتصاعد الايقاع وتنجلي الحقائق وتتساقط الأقنعة ولأن المؤلف روائي مبدع فإن القاريء لا يعلم على وجه اليقين أن الابن الذي يتحدث معه الأب في رحلة العتبات غائب بجسده إلا في العتبة الأخيرة.
انها العتبة الحادية والعشرين التي يشارك فيها القاريء الراوي الأب لوعته وتذهب النفوس حسرات على الابن دارس الهندسة الذي تحول لترس في آلة الموت والدمار ولم يعد لجوهره الانساني ليترك للأب المكلوم معنى الفقد وايام الألم وهو يناجي الرسالة الوحيدة التي وصلته من الابن الذي يقاتل في "المعركة الخطأ بين الجبال والكهوف البعيدة".
وقالت الدكتورة سامية حبيب في الندوة، التي كانت بداية موفقة لأنشطة المقهى الثقافي بالدورة السادسة والأربعين لمعرض القاهرة الدولي للكتاب، "إن صوت الأب هو الحاضر داخل رواية السلفي وله أكثر من مستوى وتفسير".
فالأب "كأب للسلفي" يحتل المستوى الأول ثم المفكر فالمواطن ثم يأتي صوت السياسي وكلها مستويات تشكل "الصوت الوطني المصري المعبر عن خوف جيل الأباء على الأبناء.. فيما نوهت سامية حبيب بأن الرواية تطرح السؤال الكبير "متى تحول هؤلاء الأبناء لمنتمين لتنظيمات منخرطة في الهدم والعنف"؟!.
ونسجا على هذا المنوال فإن عمار علي حسن في رواية "السلفي" يطرح سؤالا قد يكون أكثر أهمية، وهو "كيف تحول هؤلاء الأبناء إلى منتمين لتنظيمات دموية تسفك دماء المصريين بشعارات دينية في مشهد دال على آليات التضليل والتحريف والتلاعب وسوء التفسير للدين الحنيف"؟!.
ها هو عمار علي حسن ويحفر علامة اصيلة في مسيرته الابداعية وفي الحياة الثقافية المصرية والعربية بهذه الرواية التي قامت على تقنية جديدة وآلية غير معهودة في الرواية العربية، فيما أوضح خلال الندوة أنه استعار فكرة "الانفصام" في صوت الأب وخطابه لأبنه السلفي من تجربة أتاحتها الظروف عندما تعرف على رجل فصامي يخاطب امرأة غير موجودة.
وها هو يمضي في عتباته المباركة مع الأب الذي ضاع ابنه الوحيد في مجاهل التطرف ومخاطر الارهاب هو للمفارقة محامي شهير يترافع في قضايا الرأي دفاعا عن المبدعين الذين تطاردهم القوى الظلامية وتسعى دوما لعرقلة ابداعاتهم عبر الملاحقات القضائية والمطاردات في المحاكم.
كيف أذن ينضم الابن لقوى الظلام وتضيع فلذة الكبد في جبال وعرة وصحاري ملتهبة ومعارك لا تعرف الرحمة ودماء تسيل بلا شفقة؟!.. وكيف حدث ما حدث للابن في غفلة عن الأب؟!.. وكيف اقتنع الابن بتأويلات اشخاص للدين وسعوا لتصوير هذه التأويلات على انها هي الدين من اجل مصالحهم الخاصة ومآربهم الدنيوية التي تخاصم بأطماعها جلال العقيدة وسمو مقاصد الاسلام؟!.
الرواية تجيب على هذه التساؤلات وتتناول ابداعيا تحولات شاب مصري شب عن الطوق في بيئة مصرية طيبة ومتسامحة وتصف آليات المسخ الانساني التي تعرض لها هذا الشاب ليتحول الى "الابن الضال"، كما تشير لتحولات البشر احيانا من الشر الى الخير كما حدث لعمدة البلدة الريفية في المنيا.
إن السؤال الكبير كما يطرحه عمار علي حسن في روايته الجديدة هو "أي تراث وأي سلفي"؟!.. وما الذي نأخذه بالضبط من التراث وما الذي نتركه لكتب صفراء كتبها أناس لا قداسة لهم وإن حاول البعض تضليل الأمة وتصوير تلك الكتب الصفراء وسجالات السخافة لبعض المنسوبين للتيار الظلامي على أنها الدين!.
ثم اننا جميعا نحمل جينات الأسلاف كما ورثناها وننتمي بالضرورة لهوية تحمل ضمن مكوناتها مستوى تراثيا وسلفيا لابد وان يعبر عن متن عامر بالجلال وحافل بالمعاني السامية كما وردت في النص القرآني المقدس وكتاب كريم باق ليوم الدين.
ولئن كانت الناقدة الدكتورة سامية حبيب قد طالبت المؤلف بكتابة جزء ثان للرواية على لسان الابن السلفي مؤكدة على انها رواية من اهم الروايات التي ناقشت القضايا التي نعيش فيها فالحقيقة ان عمار علي حسن عالج ابداعيا اشكالية مصرية باتت تثقل كاهل مصر والمصريين وهي اشكالية التطرف وبلاء الارهاب بقدر ماهي اشكالية عربية بل وعالمية بعد ان توالت مشاهد القتل والذبح وقطع الرقاب والرؤوس في جرائم وحشية ترتكبها جماعات ارهابية باسم دين هو دين الرحمة وتحية اتباعه هي السلام .
والابن الضائع في رواية "السلفي" انضم لجماعة من هذه الجماعات الارهابية التي تخطف ارواح اتباعها لينشروا الرعب ويستبيحوا الحرمات دون شعور بالذنب او وازع من ضمير لأن "عملية خطف الأرواح" هي وجه من وجوه عمليات غسيل الدماغ التي عرفها التاريخ لتيارات مثل النازية والفاشية وكلها ترفع شعارات جذابة وتعمد للطقوس الاستعراضية.
والدكتور عمار علي حسن يتطرق في روايته "السلفي" لكثير من هذه الأساليب وعمليات تجنيد اعضاء جدد في تلك الجماعات كما يشير ويوميء لأزمة "العقل النقلي" وهو عقل يسيطر على الجماعات المتطرفة ويوجه اتباعها لارتكاب جرائم ارهابية بقدر مهو عقل يتعارض مع "العقل الاجتهادي" الذي انتجته الثقافة الاسلامية في ازهى عصورها.
واشار الكاتب مصطفى سليمان في هذه الندوة بالمقهى الثقافي لمعرض الكتاب الى ان الرواية تجسد المجتمع المصري الحالي بجميع طوائفه فيما لفت عمار علي حسن الى اهمية التفرقة بين لغة العمل الابداعي الفني ولغة العمل الاكاديمي والكتاب العلمي.
كما لفت الدكتور عمار علي حسن في الندوة الى ان رواية السلفي لم تكتب بعد ثورة يناير وصعود التيار السلفي وانما بدأ في كتابتها قبل ذلك وهي كعمل فني اكتمل بعد الثورة بعيدا عن الوعظ او المنشور السياسي تتخذ مسارات متعددة معتبرا في الوقت ذاته انه لايوجد عمل فني يخلو من رؤية سياسية .
ومؤلف الرواية ينتمي بوضوح لهذا "العقل الاجتهادي" الذي يأخذ من التراث اروع صفحاته واكثرها نفعا للناس فيما تكشف النظرة المتعمقة لرواية "السلفي" عن ان عمار علي حسن يروي فيها قصة الصراع بين العقل الاجتهادي والعقل النقلي كما يتجلى في صراع الأب المثقف والابن الضال.
هذا مايفعله عمار عبر رحلة العتبات الواحدة والعشرين فاذا به يقوم بعملية تشريح "للعقل النقلي" المنتج لخطابات الكراهية ولاقصاء والتكفير والمحرك لعنف يروع الأبرياء ويسبب الوهن للأمة ويساعد مخططات اعدائها فيما يحرف غلاة المتطرفين الكلم عن مواضعه ويتلاعبون بالسياقات والغايات والمقاصد للنصوص وهكذا فمن الطبيعي ان ينظروا لأنصار "العقل الاجتهادي" كأعدى اعدائهم كما حدث في رواية "السلفي" مع الأب الذي ارادوا اذلاله وكسر انفه من خلال ابنه !.
فخطاب جماعات التكفير المنتج للعنف الطليق من اي روادع لابد وان يستهدف المغايرين ولايقبل اي اختلاف فيما تسود "الذهنية الاتباعية كالعقل النقلي والمشوه للسياقات والمقاصد" بين اعضاء هذه الجماعات ليمضوا في عملية نشر الرعب والكراهية والبغضاء وليضعوا المنطقة في حالة احتراب لتتكالب عليها قوى الخارج كل حسب مصالحه.
وفيما يتناول الدكتور عمار علي حسن في روايته اللحظة المصرية والعربية المهمومة بجماعات التكفير والارهاب فان المكان يمتد من المنيا التي ينحدر مؤلف الرواية من احدى قراها ويعرفها جيدا كمسقط رأسه وملاعب طفولته الى جبال افغانستان وصحاري ليبيا لتتوالى "العتبات" تحقيقا لنبؤة الشيخة الطيبة "زينب" وتتحقق مقولة غياب الحاضر وحضور الغائب.
ولأن الرواية في احد ابعادها هي فن التفاصيل فان رواية "السلفي" التي جاءت في 293 صفحة من القطع المتوسط حافلة بالتفاصيل الممتعة التي تعبر عن قدرة مؤلف يوظف تلك التفاصيل في سياقها الابداعي سواء على مستوى المكان او الزمان كما تعكس حقيقة الدكتور عمار علي حسن "كحالة ثقافية تمزج مابين التنظير الفكري والابداع الروائي".
ولأنه مبدع واع فان التفاصيل في روايته لم تحجب رؤيته الكلية فيما بدا عمار علي حسن طامحا عبر عتباته الواحدة والعشرين وبين تحديات الواقع وعلياء الفن "لصنع واقع ليس كالواقع" ولعلل من افضل ماصنعته خبراته الثقافية الصوفية شخصية "الشيخة زينب" وهي محورية في هذه الرواية .
وعمار علي حسن الذي امتاح من معين الواقعية السحرية في روايته "شجرة العابد" يضمخ روايته "السلفي" بأنفاس مباركة من تلك الواقعية السحرية التي تعود في تراثنا الثقافي الابداعي للعمل الخالد والحاضر في آداب الشرق والغرب معا: "الف ليلة وليلة".
والرواية الصادرة عن مكتبة الدار العربية للكتاب في القاهرة هي بحق كما يقول ناشرها "رواية غير تقليدية" بطلها غائب حاضر وراويها حاضر غائب اما مؤلفها فهو مرتبط ابداعيا بمدرسة نجيب محفوظ دون ان يسقط في فخ التقليد او يحرث ماسبق حرثه.
فالدكتور عمار علي حسن يمتاح من معينه الخاص ومخزون تجاربه الشخصية ويكتب بشعوره الطازج طارحا رؤى جديدة تعبر عن اهتمام اصيل بهموم شعبه ومكابدات قومه دون ان يحول ذلك كله من تفاعل مع الآباء الثقافيين وفي مقدمتهم النوبلي المصري نجيب محفوظ الذي يمكن للقاريء ان يستشعر انفاسه المباركة في بعض مفردات وجمل رواية "السلفي".
ويحق القول ان عمار علي حسن قد نجح في روايته الجديدة بعتباتها الواحدة والعشرين في تحويل الواقع القاسي احيانا لألوان بهيجة وتقاسيم ومعزوفات ومقامات لموسيقى اللغة فاذا بالعتبات تحمل شهادته ورؤيته لعبور محنة جلبتها جماعات تكفيرية يستخدمها البعض في الخارج لتكون لعنة على الأمة.
ومن يتأمل مليا رواية السلفي سيجد ان عمار علي حسن قد يقصد باستعادة الابن استعادة وطن سعى بعض اصحاب الشعارات الدينية للقفز على ثورته ليحولوا بهجتها للحظة حزن اضيفت لتاريخ الحزن المصري الذي تحويه بعض صفحات الرواية الجديدة اما "عين المصيبة" فهي :"فم يلهج بالتسابيح وقلب مظلم"!.
كما يدين الدكتور عمار علي حسن خطيئة البعاد والانفصال عن الجيل الشاب وهمومه ويشير لهموم الطبقة الوسطى حيث الأب المحامي والابن المهندس الذي خرج على الأب شاهرا سلاحه في الاتجاه الخطأ بقدر ماخرج على موروث "الأرض الطيبة والوجوه والقلوب الطيبة والمؤمنة بحق في ارض الكنانة".
ومن الدال والايجابي ان يوظف الدكتور عمار علي حسن خبراته الثقافية في مجالات متعددة من بينها علم الاجتماع لتتجلى في رواية "السلفي" كما يتبدى مثلا في اشارته "لمتحف الأجناس البشري الرهيب" الذي يقام على كل خريطة بلادنا ويذوب فيه الجميع وكذلك يتناول تغريبة المصري سعيا للرزق خارج بلاده ناهيك عن "ثقافة السحر والخرافة".
وهاهو كخبير ومحلل سياسي يتحدث في رواية "السلفي" عن "المشروع الجهنمي المتلاعب بالدين" فيما ينساب قلمه ليتحدث عن اخلاق المسيحي الحق كنبت من طمي الأرض المصرية الطيبة ويدين بضمير المثقف الوطني المصري ممارسات النميمة والنفاق وازدواجية المعايير في الواقع الاجتماعي .
وهو يحذر من ان مثل هذه المعطيات في الواقع الاجتماعي قد تتضافر مع ظروف شخصية او اخفاقات تجارب لتسهم في صنع بيئة التطرف بقدر ما يؤكد عمار علي حسن في تلك الرواية على أهمية رعاية الوجدان بالثقافة تفاديا "لمحنة الإنسان الأحادي" أو صاحب البعد الواحد العاجز عن إدراك معنى الوطن ومعنى الجهاد.. أنها حقا بداية موفقة لندوات معرض الكتاب التي تثري الثقافة المصرية فشكرا لعمار وشكرا للمعرض!.
أرسل تعليقك