فاس - محمد بن عمر
تُخفي أصالة الحرف التقليدية بمدينة فاس (وسط المغرب) وجهًا آخرًا مأساويًا، يتمثل في الزجّ بالآلاف من الأطفال واليافعين في أتون قطاع غير منظّم، حيث يواجه هؤلاء الصغار أبشع صور الاستغلال والحرمان، تحت يافطة "الاشتغال مبكّرًا من أجل اكتساب الصنعة"، أطفال دفعتهم ظروفهم الأسرية المزرية، وانقطاعهم عن الدراسة، إلى الارتماء في سوق العمل منذ نعومة أظفارهم، فكانت النتيجة انتهاك براءتهم في ورشات خلفية ومعتمة، ما يجعل أوضاعهم الصحية والنفسية في حاجة إلى تدخل عاجل لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
وعندما تتجول في دروب فاس القديمة، لا بد وأن تلفت انتباهك مشاهد أطفال نحيفين، يرتدون ملابس رثة، وهم يحملون فوق رؤوسهم، أو يتأبطون أواني معدنية وفخارية وجلدية، لإيصالها من مكان إلى آخر، مطالبين المارة بتوخي الحذر، والسماح لهم بالمرور، أما إذا لم تصادفهم في الأزقة الضيقة، فيمكن أن تشاهد غيرهم، وهم منهمكون في الورشات الحرفية الخلفية، المعروفة بـ "الفنادق"، وقد أخذ منهم الإجهاد والتعب مأخذًا كبيرًا.
إنها مشاهد مألوفة اعتاد عليها سكان المدينة وزوارها من المغاربة، لكن السياح الأجانب ينظرون إليها على أنها مشاهد صادمة، ما يجعلهم يستفسرون مرشديهم باستمرار عن وضعية هؤلاء الأطفال، وأسباب "استغلالهم".
والواضح أن ظاهرة تشغيل الأطفال في القطاع غير المهيكل في الصناعة التقليدية في فاس، تكتسي خطورة بالغة، نظرًا إلى العدد الهائل من الأطفال الذين يعملون في هذا القطاع، إذ تقدرهم غرفة الصناعة التقليدية في المدينة، بأكثر من 20 ألف طفل وطفلة، في غياب أرقام رسمية لصعوبة حصرهم.
ويقبع هؤلاء في وحدات غير مهيكلة، تمارس أنشطتها على هامش القوانين المنظمة للممارسة الحرفية والاقتصادية، أطفال في مقتبل العمر يمارسون نشاطهم اليومي في ظروف لا تخلو من مخاطر وحوادث، لكن حاجتهم إلى المال وتعلم الحرفة ترغمهم على التعايش مع ظروف عملهم القاسية.
استغلال بـ "دار الدبغ"
عن بعد، تبدو "دار الدبغ" وكأنها لوحة بانورامية جميلة، حيث تتعدد الألوان والأشكال، لكن بالاقتراب أكثر منها، تنجلي صور حية من مأساة حقيقية، "أبطالها" أطفال في عمر الزهور يتعرضون يوميا لانتهاك براءتهم، هؤلاء الأطفال بدل أن يكون مكانهم الطبيعي هو المدرسة، وجدوا أنفسهم فجأة ضحايا واقع اجتماعي مزري، أرغمهم على امتهان حرفة في ظروف قاسية ومهينة، من أجل أن يوفروا بسواعدهم الفتية، القوت اليومي لأسرهم، أو بدعوى أنهم أقبلوا على هذا القطاع، لكي يتعلموا أصول الصنعة.
ويقول عبد المجيد الصالحي، البالغ من العمر 15 سنة بحسرة "هذه خمس سنوات وأنا أعمل في دار الديغ، أجرتي لا تتعدى 70 درهما (حوالي 7 دولارات) في الأسبوع. ولكي أرضي والدي، أعمل من طلوع الشمس إلى غروبها... إنها محنة يومية أعيشها"، فهذا الطفل الذي فقد والدته قبل ست سنوات، أرغمه والده على الاشتغال في "دار الدبغ"، فور تخليه عن الدراسة في القسم الثالث ابتدائي.
ويلتحق عبد المجيد بمكان العمل في السابعة صباحًا، بعد أن يقطع حوالي نصف ساعة من منزل أسرته بـ "دوار ريافة" الفقير، وقد لا يتناول وجبة الفطور، لكنه حريص على حمل وجبة معه ليتناولها في الغذاء، والده تزوج بامرأة ثانية، فأصبحت هذه الزوجة لا تتعامل معه ومع أشقائه الثلاثة، بما يلزم من العناية والرعاية.
وبمجرد ما يلتحق الطفل بمكان العمل، يرتدي سروال قصير (شورت)، ثم ينغمس في حفرة لأجل أن ينظف الجلود الطرية التي تنبعث منها رائحة نتنة، حينها ليس بوسعه أن يعترض على أوامر "المعلم"، وخلال الزوال تمنح له ولباقي زملائه نصف ساعة للاستراحة وتناول وجبة الغذاء، قبل أن يستأنفون العمل إلى حدود السادسة مساء.
وليس وضع عبد المجيد مختلفًا عن أوضاع الأطفال الذين تعج بهم العشرات من الوحدات الحرفية في مدينة فاس، فـ "معاناة هؤلاء الأطفال لا يمكن تصوّر حجمها، إلا إذا وقف المرء على حقيقة الوضع في عين المكان، فهؤلاء يواجهون ما يشبه استغلالاً يوميًا، بدعوى أنهم يتعلمون الحرفة، بينما تتعرّض براءتهم في الواقع للحرمان والاغتصاب"، كما يقول الأستاذ الجامعي في علم الاجتماع عبد العالي القصابي.
ندوب لا تُمحى
يعاني غالب هؤلاء الأطفال من أعراض مرضية مختلفة، بدءًا بأمراض التنفس والحساسية وأمراض البرد والمفاصل، فضلاً عن الأمراض النفسية والعصبية، مع ما يظهر عليهم من أعراض سوء التغذية والحرمان، بسبب الظروف الاجتماعية القاسية لأسرهم التي تقطن أحياء هامشية وفقيرة، وتنحدر من البوادي المجاورة، بعد أن غادرتها تحت وطأة الجفاف والفقر والعطش في السنوات الماضية.
وفضلاً عن العلل الصحية والنفسية، يتعرّض هؤلاء الصبية لأبشع صور الاستغلال، من خلال إجبارهم على القيام بمهام فوق طاقة قدراتهم البدنية، وعدم تمتيعهم بأدنى شروط السلامة والحماية من الأمراض، زيادة على سوء المعاملة المهينة وهزالة التعويضات، واشتغالهم في ظروف غامضة من دون عقود أو تغطية صحية أو تعويض عن الأخطار، حتى ولو قضوا سنوات طويلة في الحرفة نفسها.
وغالب هؤلاء الأطفال لم يسبق أن ولجوا باب المدرسة، أو انقطعوا عنها في سن مبكرة، كما حال عزيز بوهلال الذي ولج حرفة الدرازة من أبوابها الواسعة، وعمره لا يتجاوز ثماني سنوات، بعدما حُرم من ولوج المدرسة، وحاليًا ينعت بأنه أصغر دراز في فاس من قبل العديد من أقرانه، على سبيل المزحة، فهو وإن كان قد تجاوز عمره 16 سنة بقليل، إلا أنه لا يزال ضعيف البنية، عليل الجسد، ويعتبر عزيز أن كل الأطفال العاملين بالصناعة التقليدية مقهورون ومحرومون من أبسط شروط الكرامة، بسبب قساوة العمل وطول مدته اليومية وهزالة الأجور، حيث إن أمهرهم وأقدمهم لا تتجاوز أجرته الأسبوعية 100 درهم. والصانع، في رأيه، لا تهمه الظروف الصحية للأطفال ولا أحوالهم الصحية، بقدر ما يهمه جني الأرباح فقط، رغم أن غالب الصناع يُعزون ضعف "الإجارة" (الأجرة) للمتعلّمين بكساد الحرفة.
وهذا الموضوع لا يمكن لأحد من المتعلمين أن يخوض فيه، وفي حالة إذا ما تجرأ أحد على مناقشة أجرته، فلا بد أن يكون مصيره الطرد، أو اقتطاع قدر مالي من أجرته أو تكليفه بمهمة قاسية.
ويرى الباحث في الجغرافية البشرية جواد أبو زيد أن أول من يذهب ضحية تشغيل هؤلاء القاصرين، هم الأطفال أنفسهم في الأساس، إذ إن "التشغيل المبكر يؤثّر على النمو الجسدي والنفسي والعقلي للطفل بشكل سلبي ويعرضه لمختلف الأمراض، فغالبًا ما يضطر الطفل العامل إلى معايشة ظروف عمل قاسية، بدءًا برفع البضائع الثقيلة، مرورًا بالتعرض لمواد كيماوية وغازات سامة وغبار، وصولاً إلى المخاطر المتصلة بالتعامل مع الآلات والماكينات، إضافة إلى المعاملة القاسية التي قد يتلقاها الطفل من صاحب المقاولة"، وهكذا، عاشت المدينة القديمة لفاس على سبيل المثال لا الحصر حوادث مؤلمة، ذهب ضحيتها أطفال في مقتبل العمر، منها فاجعة احتراق خمس فتيات وإصابة أخريات بحروق من درجات مختلفة، أثناء اشتغالهم ليلاً داخل ورشة لصناعة الأحذية في حي القطانين، في تاريخ 20 أيلول/ سبتمبر 2003، وتعرض الطفل عثمان لحادثة مروّعة قطعت على إثرها يداه، شهر شباط/ فبراير 2003، أثناء تشغيله لإحدى الماكينات الضخمة لقطع الجلد.
للحرفيين رأي
بعيدًا عن عالم الصغار، يؤكّد "المعلم" أحمد الدهان ، صاحب ورشة حرفية لصناعة المحافظ الجلدية في درب الطلعة، والتي تضم 16 متعلمًا، أن تشغيل الأطفال "ظاهرة صحية موروثة أبًا عن جد، لأن "الصنعة" ترغب في متعلّمين صغار لاكتساب مهارات الحرفة، قبل أن يصبحوا بدورهم صنّاعًا في المستقبل القريب، و"لا حاجة لنقول إن هؤلاء الأطفال يتعرضون للاستغلال، لأن أعراف الحرفة هي هكذا"، ومع ذلك يُقر المعلم أحمد أن "الأب هو أول من يجني على ابنه، أو يجني الطفل على نفسه، عندما يفر من المدرسة، ويتوجه للعمل في سن مبكرة، لتبدأ مهمة الصانع في تعليمه، من دون أن يشترط والده منذ البداية أي أجر،، وهناك أطفال قد يقضون شهور عدّة دون أن يتقاضوا درهمًا واحدًا، إلى أن يكتسبوا الحرفة".
أما المعلم محمد بوضربة، وهو خياط تقليدي لملابس الرجال في درب بوطويل، فيؤكّد وقوع خصومات متكررة بينه وبين المتعلمين، بسبب هزالة "الإجارة"، خصوصًا في أوقات الركود، ويعتبر أن الصنعة أفضل بكثير من الدراسة، ثم مضى قائلاً "هناك اختلاف في معاملات الصناع للأطفال المتعلمين، بحسب أنواع الحرف، واختلاف طبائع الأطفال، فمنهم من يرغب في تعلم الحرفة بسرعة وأخلاقه حسنة، وهناك من لا يهمه العمل، فيطلق العنان للشغب والتهور، فيكون جزاؤه الطرد، أو المعاملة القاسية".
أما عزيز العريبي ، وهو حرفي شاب، الذي قضى 16 سنة في العمل في ورشة حرفية لا يكاد يدخلها النور طوال النهار، بسبب عدم توفرها على منافذ التهوية، فيؤكد بمرارة أن "المتعلم لم يعد يملك أية قيمة، يعمل كأنه عبد"...، قبل أن يضيف "طيلة حياتي تعرضت لمواقف قاسية، خصوصًا في طفولتي، حيث لم أكن أتقاضى سوى 50 درهمًا في الأسبوع، وتحملت كل المعاملات القاسية، فصبرت وها أنا اليوم أجني ثمار الصبر، حيث تعلمت الحرفة، وأصبحت الآن قادرًا على فتح محلي الخاص، إذا توفرت لي بعض الإمكانات المادية".
ويرى عزيز أن الصناع التقليديين ليسوا كلهم من طينة واحدة في تعاملهم مع المتعلمين، ففي رأيه أن "الحرفيين الفاسيين يتعاملون بعطف، ويقدرون العناء اليومي للمتعلمين، عكس الحرفيين الوافدين من المناطق المجاورة"، ويضيف أن "العاملين في القطاع صغارا وكبارا يفتقدون لأبسط الحقوق، فالمتعلم لا تهمه قيمة مستحقاته أو حقوقه، إلا عندما يكبر ويدرك حجم مسؤولياته".
مهام إضافية
استغلال الأطفال المتعلمين لا ينحصر فقط داخل الورشات الحرفية، بل يتعدّى ذلك إلى خارجها، عندما يفرض بعض الصناّع على المتعلمين القيام بمهام أخرى ثانوية، كأن يرسلوهم لحمل المواد الأولية، أو نقل المنتوجات من محل لآخر، أو دفعهم إلى القيام بمهام إضافية (السخرة) تهم أغراضهم الشخصية.
ومن بين هؤلاء سعيد. ن، 16 سنة، الذي يرغمه مُشغّله كل يوم على جلب وجبات الفطور والغذاء من المنزل، ومع ذلك لا يعتبر هذه المهمة استغلالاً، بل هي أفضل بكثير من العمل، وقضى سعيد ست سنوات في "دار الدبغ"، وعندما صادفناه في طريقه إلى بيت مشغله، بدأ يتحدث بمرارة عن معاناته.
تبدو وضعية هذا اليافع جِدّ صعبة بالمقارنة مع زملائه، فقد غادر المدرسة بعد انفصال والديه بسبب الطلاق، فاضطر والدته إلى إخراجه من المدرسة، وأرغمته على تعلم الحرفة، ما دام برأيها أن "الصنعة إن لم تُغنِ تستر صاحبها"، وولج سعيد أبواب حرف عدّة، لكنه كلما قضى فترة تدريب بحرفة ما، طرده المشغل وانتقل إلى حرفة أخرى، بدعوى أنه "غبي لا يكسب الحرفة بسرعة".
الأفظع من ذلك، أن عددًا من هؤلاء المتعلمين الصغار يتعرضون من حين لآخر للتحرش والاستغلال الجنسي، كما حصل لـ كريم. ن، البالغ من العمر 13 سنة، الذي تعرض لاستغلال وحشي من قِبل شاب كان يشتغل معه داخل ورشة حرفية لصناعة الأحذية الجلدية، ما جعله يتخلّى عن العمل ويختار حرفة أخرى.
وحسب دراسة أكاديمية عن ظاهرة عمالة الأطفال أنجزها خالد سليمان، تتداخل عوامل عدّة وراء تنامي ظاهرة تشغيل الأطفال في فاس، على رأسها انتشار الفقر، في مقابل الارتفاع المستمر للأسعار، وغلاء المعيشة، ومحدودية مداخيل أغلب الأسر التي تجبر أبنائها على الاشتغال مبكّرًا، لأجل مواجهة تكاليف الحياة، ثم مشكل تفكّك الأسر، نتيجة الطلاق أو وفاة أحد الوالدين، إضافة إلى الفشل المدرسي، مع ما يرافقه من هَدْرٍ وعزوف عن المدرسة، والاعتقاد السائد بأن التعليم غير مُجدٍ ولا يوفر العمل.
وتوجد عوامل أخرى، كالهجرة القروية وما يتبعها من رغبة في الترقي الاجتماعي، وتأثير العامل الثقافي، من قبيل رغبة بعض الآباء في اكتساب أبنائهم القدرة على تحمل المسؤولية والاعتماد على الذات، أو توريثهم مهنهم التي توارثوها بدورهم عن آبائهم، إلى جانب تفضيل الأطفال في بعض الأنشطة كالزرابي، والصناعة الجلدية، لانخفاض تكلفتهم مقارنة مع تكلفة تشغيل البالغين.
استغلال القاصرات
الأطفال الذكور ليسوا وحدهم من يشتغلون في ورشات الحرف التقليدية، فحتى الإناث الصغيرات في السن، يواجهن الظروف القاسية نفسها، داخل محلات حرفية عدّة، خاصة في قطاع الزرابي وصناعة الألبسة التقليدية.
داخل مرأب أشبه في سجن لا تتعدّى مساحته الإجمالية 25 مترًا مربعًا، اجتمعت خمس فتيات صغيرات، لا تتجاوز الكبيرات منهن 17 سنة، حول المنساج (آلة النسج) في حي سيدي بوجيدة الهامشي في مدينة فاس، حيث انخرطن إلى جانب ثلاث نساء في عمل شاق، يتمثل في نسج سجاد ضخم مزركش.
وبدت أنامل هؤلاء الفتيات الصغيرات، وهي تغازل بدقة متناهية حركة المنساج، وكأنهن إبر تائهة في كومة من القش، فخيوط الصوف التي حاصرتهن من كل جانب حوّلتهن إلى فتيات مكبلات داخل محل معزول، بعد أن تم الدفع بهن إلى العمل مبكرًا، من أجل مساعدة أسرهن على تحمل قسوة الحياة اليومية.
ولا يخلو أيّ محل لصناعة الزرابي في فاس من عينة للطفلات المتعلمات، فهن يؤثّثن هذه المحلات كما تؤثثها المواد الأولية والمناسج.
يقول عبد السلام، أب في الخمسين من عمره، عاطل عن العمل "ابنتي هي التي تعيل الأسرة، لولاها ما كنا لنحيا" وهو يحاول تبرير تشغيل ابنته القاصرتين داخل معمل لصناعة الزرابي... فهذا الأب الذي عجز عن تدبير مورد آخر للرزق، استعان بكريمة ونجاة من أجل دفعهما للعمل مقابل أجر لا يتعدى 150 درهمًا لكل واحدة منهما في الأسبوع الواحد.
وبصرف النظر عن تبرير الزجّ بالفتيات الصغيرات في أتون العمل، فإن استغلالهن اليومي بأجور زهيدة ولساعات طويلة داخل مرائب وأقبية ومحلات خلفية متوارية عن الأنظار يبقى أمرًا قاسيًا، حيث الافتقاد لأبسط شروط السلامة والحماية.
وفي محل آخر متخصص دائمًا في صناعة الزرابي، كان من الصعب إقناع ربة العمل بالحديث للفتيات العاملات عندها، ففي نظرها هذا سرّ من أسرار المهنة، ولا يمكن للغرباء أن يقتحموا محلها، حتى رجال السلطة وممثلي مندوبية الصناعة التقليدية لا تسمح لهم بالدخول، وتشغل السيدة 12 فتاة بأجور متفاوتة، وتعتبر أن تشغيل الطفلات جرى برغبتهن ورغبة أسرهن.
مشروع لإعادة الإدماج
من المرتقب أن يستفيد نحو 1800 طفل وطفلة، ممن يشتغلون في قطاع الصناعة التقليدية في فاس، من فرص لإعادة تدريسهم، وتكوينهم في مجالات حرفية متنوعة، في أفق إدماجهم لاحقًا في سوق الشغل.
واستفاد هؤلاء الأطفال من "برنامج الوقاية من تشغيل الأطفال، وتقوية حظوظهم في متابعة الدراسة"، الذي يهدف إلى المساهمة في الوقاية من تشغيل الأطفال في سن مبكرة، و700 طفل من الأطفال المعنيين انقطعوا عن الدراسة حديثًا، ويشتغلون منذ فترات متفاوتة في حرف تقليدية.
هذا المشروع الذي أشرف عليه المكتب الوطني للنقابة الوطنية للتعليم"ف. د. ش"، بتعاون مع النقابة التعليمية الهولندية، ونقابة التعليم في فرنسا، والأممية التعليمية في بلجيكا، وجمعيتي أمجد وعلاء الدين للمسرح، والأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين في جهة فاس بولمان، استهدف أحياء زواغة، وأكدال، وعوينات الحجاج، وسهب الورد، وتتجسد أنشطته في إيجاد تصور للحلول الناجعة لمعالجة ظاهرة تشغيل الأطفال ووضعها موضع التنفيذ، من خلال معالجة الأسباب الصحية (مشاكل النظر والسمع) والتربوية (تحسين الأداء التربوي داخل القسم، ومعالجة التأخر في التحصيل وصعوبته) للأطفال المعنيين بالمشروع.
وإلى جانب إخضاعهم للتكوين الحرفي التدريجي بالموازاة مع مواصلة دراستهم، يسعى هذا المشروع أيضًا إلى تحسيس المدرسين والأسر المعنية بخطر تشغيل الأطفال، والتعريف بحقوقهم، وتكوينهم في مجال المناهج والطرق التربوية الناجعة في معالجة مشكل التحصيل، وتمكين المنحدرين من أوساط اجتماعية هشة وفقيرة من متابعة دراستهم، فضلا عن الحد من الهدر المدرسي، وتقوية قدرات المتدخلين في ميدان محاربة استغلال الأطفال في الورشات الحرفية، وتتبيه الفاعلين العموميين، المكلّفين بالتكوين، إلى جدوى اتخاذ سياسة تربوية تطوعية نشيطة في ميدان الوقاية من تشغيل الأطفال، من خلال ضمان حقهم في متابعة دراستهم حتى سن 15 سنة على الأقل.
وفي هذا السياق دائمًا، سبق لصاحبة السمو الملكي الأميرة للا سلمى والملكة رانيا عبد الله، أن أشرفتا على مشروع لمحاربة تشغيل الأطفال في قطاع الحرف التقليدية في فاس، من خلال دعم مشروع التعليم غير النظامي، في إطار شراكة بين صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة (اليونيسف)، والهلال الأحمر المغربي، والعصبة المغربية لحماية الطفولة، والجمعية المغربية للتخطيط العائلي، وجمعيات محلية.
ويروم هذا المشروع إلحاق الأطفال دون سن الخامسة عشرة في المدارس، وتحسين ظروف عمل المتعلمين البالغين من العمر أكثر من 15 سنة، ومناهضة تشغيل الأطفال، وتوفير تعليم غير نظامي جيد للأطفال العاملين، الذين يوجدون في سن التمدرس، مع منحهم تكوينًا تأهيليًا ذا جودة.
ومكّنت هذه الجهود من إدماج أزيد من 800 طفل أقل من سن الثانية عشرة في المدارس، كما جرى إلحاق 400 آخرين بمراكز حماية الطفولة، وجرى في الإطار ذاته تمكين الأطفال، الذين لم يقع بعد إدماجهم في المنظومة التعليمية، من متابعة صحية مستمرة، بعدما مُنحت لهم بطاقات خاصة للحصول على الأدوية والاستفادة من الخدمات الصحية المجانية.
أرقام صادمة
تقول أرقام صادرة عن هيئات حقوقية أن القطاعات غير المهيكلة في فاس، من ضمنها الصناعة التقليدية وحرف الميكانيك والمطالة (إعادة صباغة السيارات والآلات المنزلية)، تشغل حوالي 25 ألف قاصر، غالبهم تخلى عن الدراسة في مراحلها الأولى، ومنهم من انتشل من الشارع بعد أن انغمس في براثن الانحراف والإدمان على المخدرات، كما أن أغلب هؤلاء الأطفال تم اقتيادهم من قبل أولياء أمورهم إلى ورشات هذا القطاع، بدعوى تعلم الصنعة، إلا أنه بدل تعليمهم والحرص على حفظ جزء من كرامتهم وحماية جانب من براءتهم، باتوا يتعرضون لاستغلال بشع على أكثر من مستوى، مما يجعل حظوظ اكتسابهم لأصول الحرفة ضئيلا، وهو ما يجعل أبواب الانحراف مشرعة من جديدة في وجوههم، وهم يحملون هذه المرة ندوبًا صحية ونفسية ومعاناة عميقة مع الحرمان والتيه من الصعب أن تُمحى بسهولة.
أما بخصوص معاناة القاصرات العاملات في فاس، فقد أقرت دراسة قام بها صندوق الأمم المتحدة لرعاية الطفولة "اليونسيف"، سنة 2009، في إطار برنامج "حماية الطفولة" الذي وقع عليه المغرب، أن عدد الفتيات اللواتي يعملن في قطاع صناعة السجاد والنسيج في فاس يصل إلى 1300، طفلة، أي 64 في المائة من إجمالي العاملين في القطاع الذي يستأثر بتشغيل الأطفال أكثر من غيره من القطاعات، وتتراوح أعمار ثلث هؤلاء بين العاشرة والخامسة عشرة سنة.
وأكدت الدراسة التي شملت 72 وحدة لإنتاج السجاد في فاس، تضم 800 عاملة، أن 230 طفلة منهن تقلّ أعمارهن عن عشر سنوات، وتتعرض 63 في المائة من المستهدفات إلى عنف مادي ولفظي.
وعزت الدراسة تشغيل الفتيات في هذه السن المبكرة إلى استفحال عوامل الفقر وعدم متابعة الدراسة أو الانقطاع عن الدراسة.
ويبقى السؤال دائمًا هو: إلى متى ستسمر معاناة براءة الطفولة في فاس، بعد أن أرغمتها عوامل الفقر على اقتحام عالم الشغل في قطاعات غير منظمة، تُمارس داخلها كل أشكال الاستغلال والمهانة؟
أرسل تعليقك