في قرية دير غزالة شمال شرق جنين، يبدأ 'الفرّاكة' الموسم قبل أي قرية فلسطينية أخرى، لنضوج سنابل القمح مبكرا بسبب مناخ المنطقة الحار، لتكون مصدر رزق لكثير من العائلات في القرية ومحيطها، بعد أن أصبحت جزءا من موروث القرية الثقافي الذي اعتادوا عليه في شهر نيسان من كل عام.
'الفرّاكة' مصطلح يطلق على العاملين في الفريكة التي تعتبر من أهم الأكلات الشعبية الفلسطينية، والتي يتم إنتاجها عبر مراحل عدة قبل أن تصل إلى المائدة الفلسطينية والعربية.
وليد الخالدي (46 عاما) ومعه 12 فراكاً كانوا مقنعين بالكوفيات وسط سحب صغيرة من الدخان وألسنة اللهب التي تحيطهم من كل جهة، وهم يحرقون سنابل القمح على البيدر في جبل 'الراس' المطل على قرية دير غزالة والقرى المحيطة بها على أطراف مرج ابن عامر.
الخالدي رجع في ذاكرته إلى سنوات خلت، عندما كان يشاهد رجالاً قدموا من جبل الخليل على شكل مجموعات، ويقومون بإنتاج الفريكة بطرق تقليدية، وكانوا يقسّمون أنفسهم إلى فرق. يحصدون سنابل القمح بالمناجل، ويقومون بحرقها وهي لا تزال خضراء نسبيا، ومن ثم يقومون بفرزها وغربلتها، ووضعها في أكياس لبيعها.
وقال: تعلمنا الفريكة من أهل الخليل، ولكنهم كانوا يستخدمون طرقا بدائية، وينتجون كميات قليلة، ونحن طوّرنا آلية العمل، واستخدمنا التكنولوجيا في الحصاد وقمنا بعمل بيدر أرضيته من الباطون لضمان عدم اختلاط الفريكة بالتراب والحصى، وبدأنا نستخدم نار الغاز للمساعدة في حرق السنابل حتى أصبحت فرقتنا تنتج نحو ستة أطنان يومياً.
وحول خطوات ومراحل إنتاج الفريكة في قرية دير غزالة، أضاف: نقوم بـ'ضمان' مساحات واسعة من الأراضي المزروعة بالقمح خاصة من نوع 'العنبر' الذي يتميز بكبر حب القمح في سنابله، وننتظر حتى تبدأ السنابل بالنضوج، وقبل أن تنضج بشكل كامل نقوم بحصادها باستخدام حصادات كبيرة، ومن ثم نقلها عبر شاحنات إلي البيدر، ونقوم بتوزيعها على شكل أكوام صغيرة من السنابل قبل حرقها باستخدام 'شاروخ'، وهو على شكل ماسورة يخرج من فوهتها اللهب، ومتصلة باسطوانة غاز، ويتم تقليب السنابل خلال عملية الحرق، ومن ثم فرزها أو درسها، لتكون جاهزة للبيع.
وحسب الخالدي، فإن عملية إعداد الفريكة قطعت شوطا كبيرا، وقام أحد أبناء القرية بعمل فرن لتجفيف الفريكة الخضراء وغربلتها، وهذا يختصر الكثير من الوقت والجهد، ويضمن سرعة في التسويق لكبار التجار الذين يجمعون الفريكة لبيعها بالجملة والتجزئة.
الشاب علي زكارنة الذي يعمل في فرن التجفيف، يقول: هذا الفرن تم عمله خصيصا لموسم الفريكة، ونحن نستقبل الفريكة الخضراء ونضعها في الفرن، وهو عبارة عن غرفتين، أرضيتهما من حديد مخرّم، يخرج منها هواء ساخن يزيد من سرعة تجفيف الفريكة، ويقوم مجموعة من العمال بتقليبها لضمان وصول الهواء الساخن إلى جميع الكمية، وتستغرق هذه العملية من 8-12 ساعة للكمية الواحدة.
وأشار إلى أن عمل الفرن يعتمد على موسم الفريكة فقط، كذلك العاملون فيه، فهو يوفّر فرصة عمل لمجموعة من الشبان، ويسهّل على المزارعين عناء تجفيف الفريكة بطريقة تقليدية، ويساعدهم في تسويق منتجاتهم لدى التجار.
أستاذ الزراعة المتقاعد عقاب زكارنة (71 عاما) أكد أن قريته دير غزالة رغم اشتهارها بالفريكة في وقتنا الحاضر، إلا أنها كانت تشتهر بزراعة البطيخ والشمام، وكان المزارعون يصدّرون منتجاتهم إلى الدول العربية، خاصة لبنان.
وقال: أصاب البطيخ والشمام مرض فيروسي وأصبح المزارعون يميلون إلى زراعة القمح، حتى لا يخسروا، ومن هنا بدأ غالبية المزارعين بزراعة القمح، لخصوبة الأرض كونها جزء من مرج ابن عامر، وهذا فتح المجال لازدهار إنتاج الفريكة في القرية.
وتابع: ليست كل أنواع القمح جيدة للفريكة. يجب اختيار أنواع تمتلئ سنابلها بحبات القمح، وأن يكون حجمها كبيرا، كالعنبر'.
وأضاف زكارنة: على المزارعين اختيار النوعية الجيدة، والبذور المعقمة لزراعتها، خوفا من إصابة المحصول بأمراض تنتج عنها خسارة للمزارع.
ويعتبر موسم الفريكة فرصة لطلبة الجامعات والموظفين لجمع ما تيسّر لهم من مال يعينهم على مواجهة ظروف الحياة الصعبة، كما هو حال طالب الحقوق محمود زكارنة، الذي يعمل على إشعال النار خلال عملية حرق الفريكة، ضمن فرقة الخالدي.
وقال والعرق يتصبب من وجهه: 'أنتظر هذا الموسم لجمع أكبر قدر من المال، لتوفير قسطي الجامعي ومصاريفي الشخصية. موسم الفريكة فرصة مناسبة لي كوني أتقاضى نحو 180 شيكلا يوميا، وهذا مبلغ ممتاز. كثير من الشباب يعملون في هذا الموسم، إضافة لبعض الموظفين أيام عطلهم الأسبوعية أو يأخذون إجازات'.
رئيس المجلس القروي في دير غزالة أحمد زكارنة، يعتبر موسم الفريكة مصدرا مهما لدخل القرية، ولكن عملية استخدام التقنيات الحديثة أثّرت في بعض الجوانب سلبا على تشغيل الأيدي العاملة، ولكنها زادت نسبة الإنتاج التي يمكن أن تشكل عبئا على المزارع نتيجة زيادة العرض، وإمكانية أن يتم بيع الفريكة بسعر أقل.
ودعا رئيس المجلس القروي الجهات ذات الاختصاص إلى النظر إلى هذا المنتج بعين المسؤولية والحرص، ووضع كل الضمانات لبقاء استمرار هذا الإنتاج وعدم إلحاق الضرر بالمزارعين.
وليد الخالدي وفرقته يشكّلون حالة من ظاهرة أو ثقافة تسود قرية دير غزالة والقرى المجاورة، ويسعون لتطوير عملهم باستمرار لزيادة الإنتاج.
وقال: نسعى كل عام لزيادة الإنتاج، وأقوم سنويا بضمان قرابة 200 دونم من القمح، وهناك خياران: إما أن يشمل الضمان السنابل والقش أو السنابل وحدها، وهذا ينعكس على السعر، فإذا ضمنّا السنابل والقش يزيد سعر الدونم نحو 500 شيكل عن سعر السنابل وحدها، الذي يتراوح ما بين 500-800 شيكل للدونم.
وتابع الخالدي: فرقتنا تنتج ما لا يقل عن 30 طنا من الفريكة سنويا، حيث يباع الكيلو على البيدر ما بين 3.5 إلى 4 شواكل حسب الكمية، أما التجار الذين يشترون الفريكة فيبيعونها بعد تجفيفها وتغليفها وهذا مجدٍ بالنسبة لهم، حتى أن بعض التجار يصدّرون الفريكة إلى الخارج، وهذا ما يفتح آفاقا لتحسين تسويق الإنتاج.
وحذّر من الفريكة المغشوشة في الأسواق، مشيرا إلى أن هناك من يقوم بإضافة أصباغ إلى القمح المجروش على أنه فريكة، وهذا ما يجعل الكثير من المواطنين يسعون للحصول على الفريكة الخضراء من مصادر موثوقة.
ربما كثير من المواطنين خاصة الذين لم يتذوقوا طعم الفريكة التي تُعدّ باستخدام النار في البيدر، وتترك سرا خفيا في الطعم، لا يستطيعون معرفة جودتها، أما كبار السن فيحرصون على أن تكون الفريكة بلدية، كأنهم يتذوقون طعم شوائها ويعيشون متعة ذكريات عاشوها وطقوس استمتعوا بها.
أرسل تعليقك