تتبع الكاتبة نادية حرحش في كتابها الجديد "نساء القدس: المرأة الفلسطينية في فترة الانتداب البريطاني"، الصادر حديثاً عن دار الرعاة للدراسات والنشر في رام الله، وأطلق في متحف محمود درويش، مساء أول من أمس، تلك الصورة التي تجمع "رائدة النهضة النسائية العربية" الناشطة المصرية هدى شعراوي ونساء فلسطينيات في مدينة القدس، لتكشف عن الكثير منهن، وكن مغيبات، وإن كان دون الإسهاب بالحديث عن إنجازات كل منهن.
تقول حرحش في كتابها "عندما نظرت إلى تلك الصورة، رأيت مشهداً أبهرني. كل تلك النساء مجتمعات، ومع ومن؟ هدى شعراوي؟ وكأن قوة ما سحبتني إلى تلك اللحظة، وبدأت أجول بين تلك النساء، متفحصة في تفاصيلهن، نظراتهن، لباسهن، أعمارهن. أبهرتني الفكرة واستحوذت علي، لأول مرة كنت أرى فيها النساء الفلسطينيات، المقدسيات، في ذلك الزمن. خارج الصورة النمطية التي ألفتها عن جداتي وأقارنهن. تلك الحكايات من جدتي، والتي لها شكل وصورة وطابع لا يمكن إلا توصيفه بالجمعي".
"في صورتنا هذه، يقع انعكاس واضح لأسلوب معيشة لم يتم التعبير عنه بشكل عام. تحتل الذاكرة الفلسطينية مشاهد للشتات وفرار الناس خلال النكبة.. تقدم الصورة تحدياً للأساطير حول فترة الانتداب، مثل تلك التي كانت تعكس أن الحجاب كان للجميع.. هناك أيضاً شيء عن النساء في تلك الصورة يظهر تفاخراً بطريقة الجلوس أو الوقوف. كنّ مرتديات ملابس عصرية تتناسب مع غداء رسمي أو تجمع، تحديداً تجمع سياسي الطابع كان محوره المرأة .. تظهر طريقة لباسهن مزيجاً من الأناقة والموضة، مما يدل على تمييزهن لما يتناسب مع قواعد اللباس المتعارف عليه في مثل هكذا مناسبات .. يمكننا أن تفترض أن العديد منهن كن منتميات إلى فئة مجتمعية أعلى، ويرجح وجود طبقة وسطى متعلمة على الأقل".
وأشار سليم تماري إلى أن الكتاب هو إعادة صياغة لرسالة "ماجستير" للكاتبة، ويهدف إلى "استنطاق صورة ظهرت العام 1945، وتشكل فيها حضور نسائي فلسطيني مميز لمناسبة زيارة لهدى شعراوي، رائدة الحركة النسائية في مصر والوطن العربي .. نادية أخذت في التمصيح في معنى هذه الصورة، خاصة ما يتعلق بكسر الجانب النمطي في رؤية الحركة النسائية، وطبيعة أدوار النساء في تلك الفترة، حيث النظام الاجتماعي والكولونيالي السائد فترة الانتداب.
ووصف تماري الكتاب بأنه "محاولة مميزة وفريدة في قراءة التاريخ الاجتماعي من خلال صورة، وقراءة الصورة عادة يتطلب تفكيكاً ومعالجة، وهناك معالجات لطيفة في الكتاب كتلك المتعلقة بأنماط اللباس التي تكسر العديد من الرؤى الاستشراقية والنمطية في تلك الفترة، وتكشف عن وجود نسائي تم تغييبه في خضم النضال السياسي ضد الاحتلال البريطاني، وحيثيات ما بعد النكبة.
وقال تماري: كثير من هؤلاء النسوة اللواتي قامت حرحش بإعادة الاعتبار إليهن، بعضهن معروفات كمناضلات سياسيات، وبعضهن تم تهميشهن كلياً، وهنا أعاد هذا الكتاب الاعتبار لهؤلاء المغيبات، وترك مساحة لصورهن في النصف الثاني من الكتاب يعزز من إعادة الاعتبار هذه.
وأضاف: عبر هذه الصورة تطرح حرحش عدة قضايا حول "معنى الحداثة"، ومعضلة "انصياع الحركة النسائية في الثلاثينيات والأربعينيات للحركة السياسية، على عكس بداية عشرينيات القرن الماضي"، وكذلك تأثيرات "الثورة الدستورية في العام 1908 بتفجير حريات واسعة كانت مقموعة في فترة الطغيان الحميدي"، لافتاً إلى أهمية الحديث عن مساهمات العديد من هؤلاء النسوة كساذج نصار، التي كتب عنه شيئاً يسيراً، ونشرت صورة لها، وكذلك فاطمة اليشرطية.. كما حاولت من خلال استقراء هذه الصورة التعرف على هؤلاء النسوة، ومن أين أتين؟، وما علاقتهن بالنضالات الاجتماعية والسياسية، والإجابات تعني من خلال استعراض سير قصيرة لأربعين سيدة كن في هذه الصورة، وتقدم خلفيات لتلك النساء، وكيف برزن في تلك الفترة، ولسن جميعهن مقدسيات، لافتاً إلى أن "نساء القدس" يشكلن أقلية في هذه الصورة.
ومن النساء اللواتي تحدثت عنهن حرحش في كتابها باقتضاب: نبيهة ناصر، وطرب عبد الهادي، ومي زيادة، وميليا السكاكيني، وكلثوم عودة، وعنبرة الخالدي، وماتيل مغنم، وزليخة الشهابي، وأسمى طوبي، وشاهنده دزدار، ومفيدة درويش دباغ، ووجيهة الحسيني، ووحيدة خالدي، وفاطمة أبو السعود، وميمنة القسام، وحلوة جقمان ووديعة خربطلي، وهند حسيني، وفدوى طوقان، ونمرة طنوس، وفكرية صدقي، زحلوة ظيدان، وحياة بلابسة، وسميحة خليل، ومهيبة خورشيد، ووداد الأيوبي، وناريمان خورشيد، وعصام عبد الهادي، وأخريات.
وساذج نصار (1882-1963) ولدت في عكا، وعملت كمحررة في "الكرمل"، وكانت الصحفية الأولى التي تدخل السجن في فترة الإنتداب البريطاني، حيث تم الحكم عليها بالسجن لسنة في آذار 1939، واتهمت بأنها "امرأة خطيرة جداً" من قبل الاحتلال البريطاني .. كتب زوجها نجيب نصار في حينها ما بدا تقدمياً بالنسبة للعالم العربي الذكوري "إذا لم تجعلني الكرمل أدخل التاريخ فإني سأدخله بسبب زوجتي التي كانت أول امرأة تسجن في السجون البريطانية.
والد ساذج كان شيخ وقائد بهائي معروف. تزوحت من نجيب نصار صاحب جريدة الكرمل الصادر في حيفا العام 1908 .. كانت ساذج كذلك مسؤولة عن تحرير قسم المرأة بالجريدة العام 1926 .. بدأت بالثلاثينيات جريدة مستقلة تحت اسم "رسالة الكرمل"، واصبحت رئيسة تحرير "الكرمل الجديد" بين السنوات 1941 و1944.
أما فاطمة اليشرطية (1880 – 1979)، فولدت في عكا. اشتهرت بالطريقة الصوفية الخاصة بها. كان لها مريدون وتابعون، وتركت الكثير من الكتب، وهي ابنة لشيخ صوفي مرموق، هو علي نور الدين اليشرطي الشادلي.
وأشارت حرحش في حديثها خلال أمسية إطلاق كتابها "نساء القدس"، إلى أنه على الرغم من أن الصورة محور الكتاب كانت في القدس، وأن العديد من النساء مقدسيات من الطبقة النخبوية، كان هناك أكثر من نصف النساء اللواتي عددهم قرابة الثلاثين من خارج القدس، لكن ما كان يهمني "إزالة النخبوية عن فكرة الحراك النسائي في القدس"، لكنني "لم أتمكن من ذلك، كون النساء كن نخبويات في هذا الحراك، وبالمزيد من البحث تتضح الأسباب"، وإن كن هناك قلة منهن من خلفية غير نخبوية مجتمعياً كساذج نصار، في حين كان التعليم وسيلة لتصدر أخريات هذا المشهد بغض النظر عن الطبقة التي ينتمين إليها من الناحية الاقتصادية، أو عائلاتهن، لافتة إلى أن الحراك في فلسطين، ولخصوصية الأوضاع التي عاشتها النساء كبقية الفلسطينيين فترة الانتداب، أخذ طابعاً وطنياً أكثر منه نسوياً.
أرسل تعليقك