"سأعود مرة أخرى إلى تلك البلاد، بلادنا فلسطين، ومعي إبريق زيت من الطفيلة لأنير به فانوساً في الحرم الإبراهيمي، وأحمل عنباً من عجلون لأعتّقه في أديرة بيت لحم، وأوقد مشعل نار من الكرك أتوق لأن أعلقه على ذرى جبال نابلس، وأجدل سنبلة قمح من إربد لأقدمها لعينيّ جنين، سأحمل كل هذا وأكثر، وأصافح أصدقائي الذين عرفتهم، وكذلك الأحياء الذين لم ألتقهم، هم مني وأنا منهم، جدّاً وراء جدّ، سلالة كنعانية الجذور، نبطية المجد، عربية الهوى".
بهذه الكلمات أنهى الكاتب الأردني مفلح العدوان، كتابه الصادر، مؤخراً، عن وزارة الثقافة الفلسطينية بعنوان "سماء الفينيق: رحلتي إلى فلسطين"واتخذ الكتاب شكل مقالات منفصلة متصلة، تراوحت ما بين أدب الرحلات، والشعر، واللغة السردية، وليس بعيداً عن مسرحة النص في "مونولوج" داخلي انطلق به إلى فضاءات فلسطين الرحبة في رام الله، وبيت لحم، ونابلس، والخليل، وأريحا، والقدس أيضاً، حيث رافقت النصوص استحضارات ذكية وعميقة للأسطورة، والحكاية الشعبية، والتاريخ، وأيضاً النصوص الإبداعية الموازية للقدماء.
وتحضر الحكايات الشعبية وأسماء الأغنيات التراثية والأماكن في عناوين المقالات التي تشكل فصول الكتاب، وهي العناوين التي لا تخلو من نفس صحافي ممزوج بالأدب، أو العكس، وإن كان الأدب يطغى بجمالياته هنا، كما في "مقهى حنا"، و"جفرا وهي يا الربع"، و"وين ع رام الله"، و"مقهى رام الله"، و"دوار المنارة"، و"مبدعان كبيران"، و"نابلس .. دمشق الثانية"، و"القدس .. زيارة لم تتحقق"، و"بيت تعمر"، وغيرها حتى "تداعيات ليلة السفر"، و"رحلة العودة .. وهج الحنين".
في الكتاب الذي يحلق عاليا بجناحي طائر أسطوري، وقريباً من أحد جوانب دوار المنارة وسط مدينة رام الله، استحضر العدوان مشاهد من رواية "سيرة العقرب الذي يتصبب عرقاً" للروائي الفلسطيني أكرم مسلم، و"الضوء الأزرق" للأديب والمفكر الفلسطيني الراحل حسين البرغوثي، وشِقيّ رواية تأسيس راشد الحدادين لرام الله ما بين ضفتي النهر، وهي التي يسمّيها مؤلف الكتاب رواية "قصة صبرة وراشد"، مقدماً سرداً تاريخياً شيقاً ويحمل الجديد في قديم المنقول، اختتمه بأن "راشد الحدادين، الذي نجح في موطنه الجديد، لم يفارقه الحنين إلى الكرك، وتقول بعض الروايات إنه قرر العودة إلى مدينته تلك، بعد وفاة الشيخ المتسبب في رحيله، ولكنه ترك أبناءه الخمسة، الذين أسسوا عائلات رام الله، وتلك التماثيل للأسود الخمسة في دوار المنارة، في مركز مدينة رام الله، تمثل هؤلاء، وهم: صبرة، وإبراهيم، وجريس، وشقير، وحسّان، وهم أجداد العائلات المعروفة بأسماء: آل يوسف، وآل عواد، وآل الشقرة، وآل الجغب، وآل عزوز.
واستعار العدوان من "أبو أندريه" صاحب الفندق الذي كان يقيم فيه، والقريب من مركز خليل السكاكيني الثقافي، حيث كان مكتب الشاعر الكبير محمود درويش، حكاية عن الأخير في العام 2002، حيث اجتاحت قوات الاحتلال مدينة رام الله وبقية المناطق الفلسطينية المحتلة في العام 1967، جاء فيها "مرة كنت أقف أمام هيكل البناء (الفندق)، وكان الجنود قريبين من المكان، وكنت حذراً، وكان العمال مختبئين، حين التقطت أذنيّ صوت ارتطام ثمرة فاكهة قريباً مني، والتفت إلى الجهة المقابلة، فكان محمود درويش هو الذي رمى الثمرة، ويشير لي بأن الجنود قد ابتعدوا، فاقتربت باتجاهه، بعد أن أشرت للعمال بمواصلة أشغالهم، ثم تمشيت معه قليلاً في الشارع المجاور لمركز خليل السكاكيني".
في رام الله تحدث العدوان بلغة الروائي العليم عن ضريح الرئيس الشهيد ياسر عرفات، ومتحف محمود درويش، ومركز خليل السكاكيني الثقافي، وجريدة الأيام، و"رام الله التحتا" (البلدة القديمة في المدينة)، و"المغارة"، والمقهى الذي يحمل اسم المدينة، وعن وجوه سامح خضر، وزياد خداش، ويوسف الشايب، وغسان زقطان، وأكرم مسلم، وشادي زقطان، وغيرهم.
وفي نابلس لم ينس "مطعم خميس"، و"سوق الخان"، و"مسجد الحنبلي"، و"حارة الياسمينة"، و"حارة السمرا"، و"ساحة الساعة"، و"مسجد النصر"، و"محامص ومطاحن بن بريك"، و"حمام الشفاء التركي"، و"تمرية عرفات"، و"كنافة الأقصى"، و"المكتبة الشعبية"، ليصف بلغة الرحالة الحاذق لهاثه ورفيق دربه في الرحلة وراء اقتناص روائح ما أمكن استنشاقه من تاريخ معتق في المدينة التي عرفت باسم "دمشق الثانية" أو "دمشق الصغرى".
ومما جاء في الوصف: نتابع المسير .. وكأن الساعة تتابعنا مستمتعة بلهاثنا وراء مشاهدة أكبر قدر من تلك الذاكرة، كأننا في سباق معها، وهي لا تكترث بنا، فقد مرّ عليها كثيرون مثلنا.
كثيرة هي الحكايات التي صيغت بأسلوب شيّق، سلس وعميق في آن، منها عن الزيارة الحلم التي لم تتحقق إلى القدس، وعن جولته في جبل الفريديس، ومعاناة الحرم الإبراهيمي، وزياراته في بيت لحم ومحيطها لكنيسة المهد، وبرك سليمان، ومقام الخضر، برفقة صديقه أكرم الحمري، ليختتمها بالحديث عن "مزيد من المشاعر تتأجج بين الهنا والهناك"، وعن الصندوق الخشبي الصغير الذي يحوي تراب فلسطين والكوفية التي قدمها خداش هدية لشهد العدوان، ابنة صاحب "سماء الفينيق" تلبية لرغبة ملحة لديها، وعن المعنى الخاص للفلسطيني وهو يقول بحميمية عالية "هذا من زيت البلاد .. من زعتر البلاد .. من خير البلاد"، ليتنهد "ياه ما أجمل تلك البلاد".
كتاب "سماء الفينيق" لمفلح العدوان، وصفه وزير الثقافة د. إيهاب بسيسو في التقديم بأنه "مساحة للتأمل والحوار كي تستمر فلسطين كفعل يقاوم سياسات العزل والحواجز"، حيث اتخذ من "سماء الفينيق قبة للحكاية، تطل على مكونات الوقت الفلسطيني من حياة وذاكرة، السماء التي تحتضن أجنحة الفينيق كجزء من رواية الأرض التي تصعد نحو علياء السرد بكل كبرياء وشموخ"، فـ"في رحلة مفلح العدوان إلى فلسطين قادماً من المملكة الأردنية الهاشمية، تطل المدن بعفوية خاصة للبوح، ويصبح الوقت مسار سرد يستند إلى التاريخ والجغرافيا، ضمن يوميات يصوغها العدوان بأسلوب مميز، وهو يتنقل بين الأمكنة والمدن".
ووصف الكاتب والإعلامي باسم سكجها "سماء الفينيق"، في تقديم ثان بـ"أيام الوله الفلسطيني الحميم"، لافتاً إلى أن القارئ للكتاب يشعر بأنه هو صاحب التجربة، "فهو الذي جلس مع مفلح في مقهى حنا السرياني، وتألم مع مجرد رؤية ذلك الجندي العدو على جسره هو، وشاركه الغناء لرام الله على مشارفها، واستحضر وإياه درويش والسكاكيني، مستعيدين قصة أسود المنارة، والحدادين المهاجرين من جنوب الشرق إلى وسط الغرب، ليبنوا مدينة صارت مع الزمن عاصمة اضطرارية، بانتظار القدس".
وحول كتابه كان العدوان قال: إنها فلسطين.. بعيدا عن كل ما يحدث حولنا من سياسات آنية، ومواقف لحظية.. إنها فلسطين، تلك التي نشأت على نشيدها "فلسطين داري.."، وهي مساحة نبض من "بلاد العرب أوطاني.."، لكني حين زرتها، حين وطئت أرضها، حين يممت وجهي شطر مهابتها، كانت فلسطيني أنا.. صرت أنا الوحيد الفلسطيني بين كل من حولي، عدت إلى نشأتها الأولى، تقمصت روح الأجداد.
وختم العدوان: كتبت ما كتبت.. ولكنني ما زلت أشعر أنني لم أعبر إلا عن جزء ضئيل من زخم الحضور الفلسطيني، العربي، في تلك الرحلة ... كان معراجاً مهيباً مع الفينيق، لأزور القدس التي منعوني عنها، لكننا نملك ما هو أقوى منهم وأبقى، ذاكرتنا، وتاريخنا، وأساطيرنا، وإيماننا، وتصميمنا، هذا ما كان.. فكان كتاب "سماء الفينيق".
أرسل تعليقك