روما - فلسطين اليوم
تخترق توسكانا طرقٌ بُنيت في العصر الروماني، ربطتها بأهم المدن الإيطالية، فهذه المقاطعة الإيطالية سوف تغمرك بالغبطة إذ يكفي أن تتجوّلي في شوارع مدنها وبلداتها وتتعرفي إلى التاريخ المتناثر في كل أرجائها وتلتقي ناسها وتنعمي بالدفء رغم البرد في هذه الفترة من السنة، حتى تشعري بالفيض الروحي والفكري وتنسي كل هموم العمل وبرودة الحياة العصرية، إبدئي رحلتك التوسكانية في فلورنسا، قلب توسكانا، ومركز عصر النهضة الإيطالية. لذلك، فإنّ هذه المدينة تستحق أن تبيتي فيها لأكثر من يومين، يجب ألا تفوّتي زيارة كاتدرائية سانتا ماريا دل فيوري وقبّتها التي صمّمها المهندس المعماري فيليبو برونليشكي لتقاوم الصواعق والزلازل والزمن. وعلى بعد أمتار قليلة من الكاتدرائية، يقف واحد من أجمل الأبراج الإيطالية ليحضن أجمل أجراسها «كامبانيل جيوتو». وهو جزء من مجموعة المباني نفسها في محيط الكاتدرائية بحيث يمكنك زيارتها كلها في وقت واحد.
وبعد الكاتدرائية عليك التوجّه إلى ساحة ديلا الشهيرة حيث يقف قصر فيكيو، وفندق بلدة فلورنسا الذي بُني في القرن الرابع عشر، وتحيط به المباني الجميلة الأخرى مثل «لوجيا ديلا سنيوريا»، ومحكمة التجارة، ومعرض «أوفيزي» الذي يحضن بعضًا من أعظم روائع فناني عصر النهضة، بوتيتشيلي، مايكل أنجلو وكارافاجيو على سبيل المثال لا الحصر، ثم توجّهي نحو جسر فيكو في نزهة رومانسية. فعلى هذا الجسر المحلّق فوق نهر أرنو الذي قاوم همجية الحرب العالمية الثانية التي دمّرت جسور فلورنسا السبعة، سوف تشعرين برهبة التاريخ الذي يترك دائمًا شاهدًا على أحداثه.
وتنتشر على طرفَي الجسر المتاجر القديمة، التي كانت في الماضي متاجر الجزّارين، أما اليوم فهي متاجر للمجوهرات والتحف والهدايا التذكارية. يقابل جسر بونتي فيكيو، جسرا بونتي «سانتا ترينيتا» وبونتي «ألا غرازي»، تأكدي من أنك في المكان المناسب، ومطعم Enoteca Pinchiorri «إينوتيكا بينكيوري» مثالي للاستمتاع بأفضل الأطباق الفلورنسية. فالشيف آني فيولد هي أول امرأة حصلت على ثلاث نجوم ميشلان في إيطاليا. يقع المطعم في قصر قديم يعود تاريخه إلى القرن السادس عشر، أمّا إذا كانت ميزانيتك صغيرة، فهناك أماكن أرخص بكثير، حيث يمكنك تذوّق المأكولات المحلية عالية الجودة، مثل طبق «لامب ريدوتو» المحضّر من لحم البقر، من أشهر أطباق فلورنسا في ما يخص طعام الشارع، تقدّمه معظم أكشاك الطعام في المدينة، ولا سيّما في ساحة تانوتشي، حيث يوجد كشك «أوريليو» المشهور باسم «ملك لامب ريدوتو»، وبعد فلورنسا توجّهي نحو سيرتالدو التي تبعد 60 كيلومترًا جنوب فلورنسا، ترافق عبورك طرقٌ ملوّنة لريف إيطالي ينسيك الوقت ودقائقه، وإن كانت قصيرة. تقع بلدة سيرتالدو في وادي «إلزا»، المشهور بإنتاجه للكريستال، ويستمد جذوره من الفترة الرومانية الأترورية.
تتميّز المدينة بشوارع ضيقة، ومربعات صغيرة، وهيكل نموذجي من القرون الوسطى محفوظة تمامًا. مع استثناء واحد وهو إعادة بناء قصر «بريتوريو» في القرن الخامس عشر، ويضم الآن وعلى عكس معظم البلدات الإيطالية، فسيرتالدو لا تضم مركزًا رئيسًا أو وسطًا تاريخيًا. فالتاريخ وشواهده منتشرة كيفما جال نظرك.
بدلاً من ذلك، هناك شارع بوكاتشيو الطويل والعريض، الذي يستمد اسمه من الكاتب الشهير جيوفاني بوكاتشيو الذي عاش هنا، والمعروف بأنه ثالث أدباء إيطاليا الكبار في القرن الرابع عشر الميلادي، وهم: دانتي، بترارك وبوكاشيو، ويُعرف أيضًا بأنه صاحب الغلطة الأجمل في عالم الأدب، غلطة «الديكاميرون» الرواية الرائعة والمؤلفة من عشر قصص، والتي من خلالها استطاع أن يصوّر الحياة الاجتماعية المضمرة في القرن الرابع عشر الذي بدا في كل مظاهره أنه عصر المثالية، والأفكار العلوية التي عبّر عنها دانتي وبترارك ليس انطلاقًا من واقع المجتمع الإيطالي، وإنما انطلاقًا من روح العصور الإغريقية، في حين أراد بوكاشيو وبوضوح شديد أن يقول إن حياة الإنسان مهمة وجديرة بأن تكون ملوّنة، وسارّة، وممتعة، وكان هذا اقتناعًا راسخًا لديه، غير أنه في أواخر أيامه يقال إنه ندم أشد الندم على كتابة قصص الـ «ديكاميرون».
ويعتبر الغذاء الرئيس في سيرتالدو هو البصل. فلا تتفاجئي إن وجدت البصل في كل الصلصات، حتى الحلوى! فإذا كنت لا تحبين البصل، عليك أن تلفتي انتباه النادل الى هذه المسألة الغذائية، وعلى بعد 30 دقيقة جنوب سيرتالدو، تقع سان جيمينانو وهي مدينة تاريخية هائلة وواحدة من أكثر المدن الخلابة والموحية في توسكانا. تحضن حصنًا مزدوجًا من الجدران ومرقّطًا بأبراج شاهقة. تمتد سان جيمينانو على بحر من أشجار الزيتون التي تغطي تلة تُشرف على وادي «دي إلزا». وهي مُدرجة على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، وفي القرن الرابع عشر، بنت كل عائلة من العائلات الغنية في جيمينانو، برجًا لإظهار قوّتها الاقتصادية. والنتيجة 72 برجًا لم يبق منها سوى 13 برجًا، ولكل منها طبقات بوظائف مختلفة: ورش الحرفيين في الطبقة الأرضية، الغرف في الطبقة الأولى العلوية، فيما المطابخ في الطبقات العليا الأخيرة. ومع مرور الوقت، تم تمديد الأبراج لتوسيع المساحات الداخلية، وإنشاء مداخل أوسع وتحول بعضها إلى «بالازيس»، وهذا يعني المساكن الرائعة.
وتتميّز الهندسة المعمارية للأبراج الثلاثة عشر، والتي لا تزال سليمة حتى يومنا هذا، بمزيج من الأنماط المعمارية للمدن المجاورة، ويمكنك زيارة كاتدرائية دومو واكتشاف اللوحات الجدارية الجميلة قبل الوصول إلى ساحة «بيازا ديل إرب» واستكشاف المناطق المحيطة بها. يذكر أنه في 8 أيار/ مايو من عام 1300، استضافت المدينة أليغيري دانتي فسكن فيها مدة من الزمن، وفي الوسط التجاري للمدينة، يقع مطعم Perucà الذي يقدم طبقًا لا ينبغي تفويته، وهو «فاجوتيني ديل كونتادينو»، وهو عبارة عن الرافيولي المحشوة بجبن الـ «بيكورينو» والكمثرى، ويُقدّم مع صلصة الزعفران والمكسرات والصنوبر، وبعد ليلة نوم جيدة، في سان جيمينانو انطلقي إلى فولتيرا، نحو الجنوب الشرقي من سان جيمينانو، وتستغرق الرحلة 45 دقيقة بالسيارة، وتقع فولتيرا في مقاطعة بيزا المشهورة ببرجها المائل وعالِمها غاليلو. شهدت المدينة العديد من التطورات الثقافية والتاريخية منذ الفترة الأترورية الرومانية. لا تزال مباني القرون الوسطى من المدينة سليمة، تستريح داخل الأسوار القديمة والمغلقة للمدينة. ويقدَّر وقت بنائها في القرن الرابع. ومنذ ذلك الحين، لم تتغيّر المدينة كثيرًا، لذا فإن زيارتها تعني الانغماس الحقيقي في التاريخ الذي ينتظرك هناك، وفي ساحة سان جيوفاني سوف تجدين العديد من المباني: الكاتدرائية، المعمودية ودار الأوبرا ومستشفى سانتا ماريا. انتهزي الفرصة وزوري قلعة ميديسي والمسرح الروماني العظيم.
هناك العديد من الأطباق الشهية الخاصة بفولتيرا فلا تفوّتيها، مثل «زوبّا دي فولتيرا» أي «حساء فولتيرا»، معكرونة البابارديل بالأرانب، فضلاً عن مجموعة كبيرة ومتنوعة من الجبن والكمأة الموسمية، وسيينا، واحدة من أكثر الوجهات زيارةً في توسكانا، وهي موطن لكاتدرائية سانتا ماريا أسونتا المزيّنة بالرخام الأبيض والأسود فجاء على شكل عُصبات بديلة، لتثير دهشتك اللوحات الجدارية لفنّاني عصر النهضة مثل دوناتيلو، مايكل أنجلو، غيرلانديو وبينتوريشيو. وفي المعمودية التي بُنيت كمحلق للكاتدرائية، سوف تجدين الخطوط المعمودية سداسية، مع منحوتات دوناتيلو وجاكوبو ديلا كيرسيا، وفي الساحة الرئيسة، «ديل كامبو». يُنظّم سباق الخيل «باليو دي سيينا» الشهير منذ عام 1644، ويُقام راهنًا مرتين في السنة. يمكنك إنهاء اليوم بإطلالة خلابة على المدينة من برج مانجيا.
والمحطة الأخيرة من هذه الرحلة على الطريق في توسكانا: بيينزا. البلدة التي أُدرجت على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، يرتبط تاريخها ارتباطًا وثيقًا بالبابا بيوس الثاني، الذي ولد هنا عندما كانت القرية لا تزال غير معروفة. وعندما أصبح «بابا» عام 1458، أراد أن يجعل مسقط رأسه رمزًا لعصر النهضة. بدأ عام 1459 البناء واستمر أربع سنوات. ثم تحولت القرية إلى مدينة متناغمة في القرن الخامس عشر، زوري قصر بيكولوميني، وهو مبنى فلورنسي على طراز عصر النهضة كان المقر الصيفي للبابا. تم اختيار هذا القصر من جانب المخرج السينمائي فرانكو زيفيريلي كموقع لتصوير فيلم «روميو وجولييت»، وتشتهر «بيكورينو دي بيينزا» بين عشاق الجبن الإيطالي. هذا الجبن هو محل تقدير كبير، وله مهرجان خاص كل عام، في شهر أيلول/سبتمبر، «لا فييرا ديل كاسيو».
أرسل تعليقك