الدولومايت هناءة العيش بين سحر الطبيعة وعراقة التقاليد
آخر تحديث GMT 22:26:01
 فلسطين اليوم -

ما بين جبال مهيبة و أبراج صخرية مسنّنة كالرماح

"الدولومايت" هناءة العيش بين سحر الطبيعة وعراقة التقاليد

 فلسطين اليوم -

 فلسطين اليوم - "الدولومايت" هناءة العيش بين سحر الطبيعة وعراقة التقاليد

الفنون المعمارية
روما - فلسطين اليوم

يروى أن المهندس المعماري السويسري الشهير «لوكوربوزييه»، مؤسس المدرسة التناسقية التي شكّلت تصاميمها الرائدة منعطفاً أساسياً في تاريخ الفنون المعمارية، قال عندما وقع نظره للمرة الأولى على هذه المناظر الخلّابة: «إنها الهندسة الطبيعية الأكثر كمالاً في العالم».

«الدولومايت»، التي يُشتقّ اسمها من العالم الفرنسي الذي كان أول من كشف عن طبيعة تكوينها الجيولوجي، هي سلسلة من الجبال الشاهقة والمسنّنة التي تمتدّ على خمسة أقاليم في أقصى الشمال الإيطالي. تتجاوز 18 من قممها الثلاثة آلاف متر، تنداح عند سفوحها وديان خضراء تضجّ بمئات الأجناس من النباتات والحيوانات الفريدة وتنتثر بينها عشرات القرى الساحرة التي تكلّم سكّانها أربع لغات مختلفة.

هنا يحتار الزائر من أين يبدأ رحلته وعلى ماذا يركّز اهتمامه: الوهاد العذراء في منطقة «آديجي» العليا، أو الدساكر الجميلة في إقليم «فينيتو» أو الطبيعة الخلّابة حول «فريول جوليا». لكل من هذه المناطق الثلاث أسلوبها المعماري الخاص وتراثها المميّز في الطهو، وهي على قائمة اليونيسكو للتراث العالمي لجمال طبيعتها ومواصفاتها الجيولوجية الفريدة.

مدينة «ترينتو» هي مستهلّ جولتنا في هذه الأقاليم التي تبدو طالعة من ديكور مسرحي أو سينمائي، وأول ما يستوقف الواصل إليها هو القصر المنيف المشرف عليها من هضبة عالية ويختزن بين جدرانه مجموعة نفيسة من الكنوز والروائع الفنيّة. جبال صخرية عالية تحيط بالمدينة كالسوار بالمعصم، وتضفي عليها مسحة خياليّة كأنها من خارج العالم. لكن رغم ذلك، لم تقع «ترينتو» كغيرها من المدن الإيطالية ضحية سحرها وجمالها، وهي نادراً ما تكون مكتظة بالسيّاح والزوّار، علما بأن تراثها التاريخي والفنّي يؤهلها لذلك. فهي كانت، على العهد الروماني، مركزاً عسكرياً مهماً بحكم موقعها الاستراتيجي كبوابة نحو جبال الألب، ثم أصبحت عاصمة الدوقيّة التي تحمل نفس الاسم وفيها عقدت الكنيسة الكاثوليكية مجمعها الشهير أواسط القرن السادس عشر، حيث وضعت أسس المواجهة مع الحركة الإصلاحية التي تعرف اليوم بالإنجيلية.

وما زالت ترينتو تحتفظ بعدد كبير من مبانيها الأصلية التي يعود بعضها إلى القرن الثاني عشر وتتمازج فيها أنماط معمارية متنوعة، تتوسطها ساحة محاطة بقناطر حجرية قديمة تنتشر تحتها المقاهي التي تدور فيها حركة لا تهدأ حتى ساعة متأخرة من الليل. وعند إحدى زوايا الساحة يقوم قصر الحاكم القديم وبرجه العالي من القرن الحادي عشر، تحيط به مجموعة من المباني الواطئة المرصوصة وراء جدران تتعاقب على حفافها تماثيل رخاميّة صغيرة تروي حكاية الحِرَف التي برع فيها سكّان المدينة عبر التاريخ وتوارثها أحفادهم إلى اليوم. لكن اللوحة الأجمل هي التي يراها الناظر من شرفة القصر المطل على المدينة، والذي كان نقطة المراقبة الرئيسية للطريق التي تربط ألمانيا بالشمال الإيطالي طوال قرون كثيرة.

من هناك ننطلق على خاصرة الجبل نحو «برينتا» ودروبها المتعرّجة التي تزنّر المرتفعات الصخرية الشاهقة، والتي كان يستخدمها الجنود الألمان في الحرب العالمية الثانية وأصبحت اليوم مساراً سياحياً للتمتّع بالمناظر الطبيعية الخلّابة التي يقصدها الرحّالة من كل الأنحاء. و«برينتا» هي العتبة التي يحسن الدخول منها إلى «بولزانو» الجميلة التي يقال إنها أقرب المطارح إلى الجنّة. منازل حجرية أنيقة وقصور من العصور الوسطى توارثها أبناء الأسر النبيلة وحافظوا على أصالتها ورونقها عبر العصور، وشوارع مرصوفة ونظيفة، ومرافق عامة راقية جعلت من هذه المدينة الأولى في إيطاليا من حيث مستوى الرفاه والخدمات الاجتماعية.

الوسط التاريخي في «بولزانو» يجمع بين أضلاعه الخمسة كل سحر منطقة «التيرول» التي كانت مصيف الأرستقراطيين إبّان حكم عائلة «هابسبورغ» على الإمبراطورية النمساوية المجرية، ويختزن مواقع أخّاذة مثل ساحة «والتر» التي كانت مسرحاً لتصوير أفلام عالمية، وشارع «بورتيتشي»، إضافة إلى تراث ثقافي فريد يبرز فيه متحف الآثار الذي يضمّ مومياء الثلج الشهيرة «أوتزي»، وقصر «فيرميانو» الذي يضمّ ستة متاحف متنوّعة ومجموعة نفيسة من الفن المعاصر.

أولئك الذين يبحثون عن سحر الطبيعة في أبهى تجلّياته سيجدونه على مقربة من «بولزانو» في وادي «فونيس» حيث أوّل ما يقع عليه نظر الهابط إليه من علياء المدينة هو كوخ خشبي في وسط مروج خضراء تبدو وكأنها تمتدّ بلا نهاية إلى أن تصل عند أقدام جبال «أودليه» الصخرية التي ترتفع شامخة في شكل عمودي نحو السماء. هنا، كما تذكّر لوحة عند سفح جبل «المجدليّة»، وُلِد وترعرع متسلّق الجبال الشهير راينهولد ميسنير الذي في عام 1978 وكان أوّل من تسلّق قمم الهملايا الأربع عشرة التي يزيد علّوها على 8 آلاف متر وصعد إلى قمّة إيفرست من غير أكسجين إضافي.

من المحطات الواجبة في تجوالنا على روائع «الدولومايت» الطبيعية معبر «غاردينا» الذي يطلّ من علو يتجاوز ألفي متر على جبال «أودليه» من جهة، ومن جهة ثانية على القمّة الصخرية الشهيرة المعروفة باسم «الأصابع الخمس» المشرفة على وادي «إيساكرو» الذي يضمّ عشرات الأجناس النباتيّة النادرة التي لا تنمو إلا في هذه المنطقة، لنقاء تربتها وصفاء مياهها. كل ما يحيط بنا في اجتيازنا هذا المعبر من منحدرات ومروج وغيوم، يبدو كأنه وُضِع خصيصاً بيد رسّام في لوحة طبيعية ساحرة.

بعد استراحة قصيرة في أي من الفنادق العائلية الصغيرة المنتشرة بين تلك الوهاد نتوجّه نحو «كورتينا دامبيزو» التي تشبه مسرحاً إغريقياً بديع الهندسة، تحيط به جدران عالية من الصخور الفضّية ترتفع وراءها هضاب متدرّجة تكسوها غابات خضر كثيفة تمتد في نهايتها بطاح عشبيّة تسرح فيها قطعان من الأبقار والأغنام الهانئة في هدأة طبيعة تبدو كأن الإنسان لم يطأها أبدا. ويخبرك المسنّون هنا أن هذه الأراضي كانت تابعة لجمهورية البندقيّة المهيبة حتى مطالع القرن السادس عشر، ثم خضعت للإمبراطورية النمساوية المجرية طوال ثلاثة قرون قبل أن تستعيدها إيطاليا في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

وكورتينا هي مقصد المتأنقين بين زوّار هذه المنطقة التي يستحوذ جمالها الطبيعي على المشاعر. هي قطعة من النمسا مزروعة في أعالي أحد أجمل المواقع الإيطالية، أرستقراطية في نمط حياتها وكوزموبوليّة في روّادها الذين يقصدونها بعشرات الآلاف خلال موسم التزلّج من كل أنحاء أوروبا، ويقصدها عشّاق الموسيقى البارّوكية لحضور مهرجانها العالمي الشهير أواسط الربيع من كل عام، ثم يعودون في الصيف لاستكشاف جمال طبيعتها المبهر.

«الدولومايت» معزوفة من الجبال الشاهقة والمهيبة، والأبراج الصخرية المسنّنة كالرماح، أو المائلة كأجنحة ضخمة، تبرز بينها مجموعة تعرف بقمم «لافاريدو» الثلاث كأنها أصابع حجرية مصفوفة في شكل عمودي أصبح رمزاً لمتسلّقي الجبال الصعبة في العالم. آلاف من السياح والمتسلّقين يؤمّونها بانتظام كل عام، بعضهم لمحاولة الوصول إلى قمتها العليا في الوسط التي بلغها أوّل المتسلّقين في العام 1869، وآخرون للوقوف مشدوهين أمام جمالها المغناطيسي.

بعد هذه الوجبة من البدائع الطبيعية ننتقل إلى بلدة «فلتري» الأنيقة التي يزخر وسطها التاريخي بقصور منيفة من القرن السادس عشر، وبيوت أرستقراطية تشهد على رقي هذه البلدة التي تضمّ أيضا عددا من المتاحف الجميلة، أشهرها متحف الفن الحديث «كارلو ريتزاردا» المخصص لهذا الفنّان المحلّي من أواخر القرن التاسع عشر، والذي يعرض مجموعة رائعة من الأعمال الحديدية التي اشتهر بها. ومن العلامات الفارقة في هذه البلدة الرسوم الجدارية التي تزيّن الكثير من مبانيها القديمة وتضفي عليها طابعاً فنيّاً وتاريخيّاً.

وراء «فلتري» ترتفع باسقة سلسلة أخرى من الجبال وسط مشاهد طبيعية تحبس الأنفاس. أنها «دولومايت بلّونو» التي كانت كتلة ضخمة من الجليد منذ ملايين السنين، تحوّلت مع مرور الزمن إلى مرتفعات صخرية ومغاور عميقة ومروج خصبة توالى الإنسان على العيش فيها واستغلال خيراتها، وحيث تقوم اليوم حظائر تُربّى فيها أغنام تنتج أنواعاً فاخرة من الأجبان.

وعند طرف هذه السلسلة ترتفع «صخرة الحجر»، وهي قمّة مسنّنة يزيد علوّها على ثلاثة آلاف متر ويعتبرها المتسلّقون رمزاً لهم وتميمة يتباهون بالوصول إليها، نظراً لوعورتها وصعوبة مسالكها الحجرية التي تسببت في الكثير من الحوادث المميتة للمغامرين الذين كانوا يجازفون لتسلّقها.

طوال سنوات قاوم سكّان الأقاليم المحيطة بالدولومايت الكثير من المشاريع التي كانت تهدف إلى تنمية القطاع السياحي وإقامة بنى تحتية حديثة ومرافق ترفيهية وبناء فنادق ومنتجعات كبيرة، وحرصوا على عدم تشويه تراثهم الطبيعي والمعماري، وحافظوا على أصالة طرائق عيشهم بعيداً عن التأثيرات الخارجية التي كانت لها آثار مدمّرة في الكثير من المناطق والمدن السياحية الأخرى في إيطاليا. وساعد موقع هذه الأقاليم وطبيعتها الجغرافية على عدم تدفق السيّاح إليها بأعداد تخرج عن السيطرة والتحكّم بمؤثراتها على طابع الحياة المحلية، كما أن عدم وجود مطارات تجارية في محيطها كان له أثر كبير في عدم اكتظاظها.

ومنذ تسعينات القرن الماضي اعتمدت مدارس الأقاليم في مناهجها التعليمية برنامجاً إلزاميّاً لكل الطلاب يهدف إلى التوعية بأهمية التراث الطبيعي والتاريخي، وسبل صونه والتعريف به والحفاظ على ديمومته. كما استحدثت السلطات الإقليمية برنامجاً للجوائز السنوية، تُمنح للهيئات والأفراد الذين يتميّزون بالحفاظ على التراث ويقومون بمبادرات لحمايته من التأثيرات الخارجية. وتقوم وزارة السياحة الإيطالية حاليا، بالتعاون مع منظمة السياحة العالمية ومنظمة اليونيسكو وبرنامج الأمم المتحدة للبيئة، بإنشاء معهد عالمي لبحوث التراث الطبيعي في مدينة «ترونتو»، ينتظر أن يباشر نشاطه في العام الدراسي المقبل

قد يهمك ايضاً:

جزيرة الأميرات التركية الأفضل لمحبي الجمال الطبيعي

منتجع "جومو سلوك" يتميز بالجمال الطبيعي الخلاب

palestinetoday
palestinetoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الدولومايت هناءة العيش بين سحر الطبيعة وعراقة التقاليد الدولومايت هناءة العيش بين سحر الطبيعة وعراقة التقاليد



GMT 09:23 2021 السبت ,09 كانون الثاني / يناير

تعرف على أفضل 10 أماكن سياحية في شمال لبنان

GMT 09:25 2021 الأربعاء ,06 كانون الثاني / يناير

تعرف على أبرز الوجهات السياحية في البلقان لشهر كانون الثاني

GMT 11:34 2021 الأحد ,03 كانون الثاني / يناير

تعرف على أفضل رحلات سفاري في العالم
 فلسطين اليوم -

تارا عماد تتألق بإطلالات عصرية ملهمة لطويلات القامة من عاشقات الموضة والأناقة

القاهرة ـ فلسطين اليوم
تلهم النجمة المصرية تارا عماد متابعاتها العاشقات للموضة بإطلالاتها اليومية الأنيقة التي تعكس ذوقها الراقي في عالم الأزياء، بأسلوب هادئ ومميز، وتحرص تارا على مشاركة متابعيها إطلالاتها اليومية، وأيضا أزياء السهرات التي تعتمدها للتألق في فعاليات الفن والموضة، والتي تناسب طويلات القامة، وهذه لمحات من أناقة النجمة المصرية بأزياء راقية من أشهر الماركات العالمية، والتي تلهمك لإطلالاتك الصباحية والمسائية. تارا عماد بإطلالة حريرية رقيقة كانت النجمة المصرية تارا عماد حاضرة يوم أمس في عرض مجموعة ربيع وصيف 2025 للعبايات لعلامة برونيلو كوتشينيلي، والتي قدمتها الدار في صحراء دبي، وتألقت تارا في تلك الأجواء الصحراوية الساحرة بإطلالة متناغمة برقتها، ولونها النيود المحاكي للكثبان الرملية، وتميز الفستان بتصميم طويل من القماش الحرير...المزيد

GMT 07:57 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

إبقَ حذراً وانتبه فقد ترهق أعصابك أو تعيش بلبلة

GMT 07:30 2019 الأحد ,17 تشرين الثاني / نوفمبر

تتركز الاضواء على إنجازاتك ونوعية عطائك

GMT 11:50 2015 الخميس ,22 تشرين الأول / أكتوبر

اغلاق حاجز "300" شمال بيت لحم ودخول القدس عبر "النفق"

GMT 05:59 2015 الخميس ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

سعيد الماروق يشير لاستمراره الصراع مع مرض السرطان

GMT 11:27 2016 الجمعة ,23 كانون الأول / ديسمبر

بداية جديدة وانفراجات لكنك لن تلمسها إلا تدريجيًّا

GMT 22:07 2016 السبت ,12 تشرين الثاني / نوفمبر

"قطط العام الفائت" أحدث روايات إبراهيم عبدالمجيد

GMT 04:32 2017 السبت ,14 كانون الثاني / يناير

الأشخاص الذين يتحدثون لغتين أقل إصابة بالخرف

GMT 12:19 2016 الخميس ,28 تموز / يوليو

تعرف علي جمارك سيارات "كيا سيراتو" 2017

GMT 06:40 2020 السبت ,26 كانون الأول / ديسمبر

غارات اسرائيلية على عدة مواقع للمقاومة بقطاع غزة

GMT 13:24 2020 الخميس ,16 إبريل / نيسان

فساتين للمناسبات المختلفة للقصيرات المحجبات

GMT 10:34 2019 السبت ,16 شباط / فبراير

نوير يُحذّر البايرن من التراخي أمام ليفربول

GMT 18:21 2018 الثلاثاء ,11 كانون الأول / ديسمبر

ماجد المصرى يصور فى الشيخ زايد مسلسل بحر

GMT 23:07 2018 الأربعاء ,28 تشرين الثاني / نوفمبر

"ميسي يتفوق على رونالدو في "دوري الأبطال
 
palestinetoday

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

palestinetoday palestinetoday palestinetoday palestinetoday