انتظمت في قاعة الجليل بمتحف محمود درويش بمدينة رام الله، مساء أول من أمس، ندوة تضامنية مع الفنان محمد بكري، عشية محاكمته، من قبل الاحتلال، والتي تتواصل فصولها منذ ثمانية عشر عامًا، منذ أخرج فيلمه الشهير "جنين جنين"، وبسببه، وذلك بمشاركة نخبة من المبدعين ورجال السياسة، وفي هذه المرة يرفع الشكوى عليه جندي في جيش الاحتلال، بدعوى التضرر من ظهور صورته في الفيلم الذي يتناول مجزرة مخيم جنين العام 2002، مطالبًا بتعويض قدره مليونان وستمائة ألف شيكل إسرائيلي.
وقال بكري في نهاية الندوة التضامنية: تربينا على نبذ الكراهية والعنصرية، ورفض غنائيات الدم، وأنا رغم كل شيء سأبقى متفائلًا ولكن لست بساذج، فالسذاجة طبع، لكن التفاؤل قرار، وباعتقادي لا بديل عن التفاؤل، خاصة أنني لا أعرف جوابًا بعينه إذا ما عرض عليّ تساؤل مفاده "ما البديل؟" .. سعيت دائمًا كفنان إلى السلام، وهذه روايتي، لكنهم يحاربونها كما يحاربونني، لأنهم يريدوننا جميعًا أن نغني للدم، وأن نكون جميعنا متطرفين.. الحرب ليست فقط على العرب، حربهم معنا على الرواية.
وأضاف: هم يسعون على الدوام لإيهام أنفسهم، وتصديق هذا الإيهام وتصديره بأن الرواية الفلسطينية ليست برواية إنسانية، ومن هنا وظيفتنا كمبدعين وكتاب ورجال سياسة وكل من لديه قلب يسكن عقله المحافظة على هذه الرواية، ونقدمها بالطريقة التي تليق بها، خاصة أن روايتهم، حتى الآن، وللأسف، هي الطاغية، فيما نحن عاجزون عن إيصال روايتنا كما يجب.
واستعرض الروائي يحيى يخلف السجل الإبداعي الكبير لمحمد بكري على مختلف المستويات، وأكد: نتضامن مع الفنان الكبير محمد بكري، ونعتز به، وهو الذي خرج من جحيم النكبة، وعاش زمن الحكم العسكري، واختار الفن مع غيره من المبدعين، ليكون رمزًا من رموز المسرح والسينما والثقافة الفلسطينية داخل الخط الأخضر، مشددًا على أن الثقافة حمت الهوية الفلسطينية في الداخل والخارج، وعلى أن ظاهرة أدب المقاومة خرجت من الداخل الفلسطيني، لافتًا إلى ما قامت به الحركة الصهيونية من استغلال للثقافة بمختلف مكوناتها للترويج لذاتها، ونجحت إلى حد كبير في ذلك على المستوى العالمي، بل وظفت بعض الحالات لجهة تعزيز الاستيطان، في حين أننا أصحاب الأرض لم تتح لنا الفرصة تقديم روايتنا، مشددًا أن الفنان محمد بكري نهض عبر أعماله المسرحية وبعدها السينمائية ليقدم رواية شعب ووطن، ليختم بأن "الاحتلال يريد أن يرتكب جرائمه في العتمة، ولذلك فإن الكاميرا من أكبر أعدائه .. لهذا يحاكم محمد بكري".
بدوره استذكر محمد بركة، رئيس لجنة المتابعة للجماهير العربية: في نيسان من العام 2002، وكنت عضوًا الكنيست آنذاك، بلغني أن منظمة "زاكيا" الإسرائيلية المتخصصة في دفن الموتى، كلفت بدفن شهداء مخيم جنين، وكان ذلك ذات صباح مبكر، ورفعنا شكوى إلى المحكمة العليا الإسرائيلية، كي لا يتم إخفاء الجريمة التي ارتكبها الجيش في المخيم، وكي يدفن الشهداء بما يليق بهم، وقد نجحنا في مساعينا هذه .. حين دخلت إلى المخيم بعيد المجزرة لم يكن ثمة بيوت ولا أزقة بل جبل من ركام، وتطل منه ألعاب الأطفال وكتب الطلاب وملابس النساء والشباب في مشهد تقشعر له الأبدان .. ما قام به محمد بكري هو أنه وضع أمام المشهد كاميرا، وهو يحاكم لكونه كشف الجريمة بهذه الكاميرا المرآة أمام العالم كله، وأمام مرتكبيها .. كانت هناك محاولة لإخفاء الجريمة برمتها، وهي من أبشع جرائم الإنسانية في العصر الحديث.
وأضاف بركة: ما أزعجهم أن بكري فضحهم، والغريب أن المشتكي جندي كان ذاهبا ليقتل في المخيم .. علينا تكريس هذا الشكل المقاوم الذي مثله محمد بكري، ويلاحق لأجله منذ ثمانية عشر عامًا .. إنهم يريدوننا أن نتحدث بلغتهم، ولغتنا لا يمكن أن تكون صهيونية .. الصهيونية ليس همها فقط أن تسرق البلاد، وليس فقط أن تنتحل التاريخ، وليس فقط أن تسرق مسميات المكان، بل بمساع مرعبة لكي وعي ضحيتها.
ورفض السياسي والكاتب نبيل عمرو تعبير "التضامن" مع محمد بكري، من باب أن التضامن لا يكون مع الذات، مشددًا على أنه "مهما تحدثنا عن محمد بكري لن نصل إلى ما تحدث العالم عنه لقوة حضوره وغزارته في السينما والمسرح، حتى أن هناك من وصفه بوجه فلسطين الحضاري من كبار كتاب ونقاد العالم"، مؤكدًا أن الثقافة في حياتنا الفلسطينية تتعرض لظلم كبير، لافتًا إلى ضرورة تغيير الخطاب الثقافي أو السياسي القائم على فكرة "بالدم نكتب بفلسطين"، لأننا يجب أن نكتب "بالحبر" و"هذا ما نفعله حقيقة، لأننا ضحايا الدم والدموية، متحدثًا عن رعب الاحتلال من الكاميرا، وهو ما انعكس في مقولة كيسنجر لرابين حين انتشر الفيديو الشهير بـ"تكسير العظام" في انتفاضة الحجارة بأن افعلوا ما شئتم ولكن احذروا الكاميرات، بحيث نقل هذا المشهد القضية الفلسطينية، "باعتقادي"، إلى مرحلة متقدمة، وهو ما فعله بكري في فيلمه "جنين جنين"، لافتًا إلى أن ثمة تقصيرا ساهم في الجميع بتأسيس مؤسسات ثقافية وطنية فاعلة، مع أنه لم يتبق لنا إلاها، مستذكرًا مقولة درويشية بأن "كل بلاطة في فلسطين حكاية ثقافية بحد ذاتها".
بدوره شدد د.أسعد عبد الرحمن رئيس مؤسسة فلسطين الدولية، على أن الثقافة من أبرز التجليات الإنسانية للمقاومة، فالمحبة في زمن الكراهية والتعصب مقاومة، وتعليم صناعة المسرة والحياة من أجل استرداد إنسانيتنا المختطفة مقاومة، مؤكدًا أن بكري "المعاند للخصم والعدو، والعنيد في الدفاع عن الحق"، صنع فيلم "جنين جنين" بقلبه قبل عقله، وأبدع في عرض شهادات حيّة لأهل المخيم وضحايا العدوان في العام 2002، حيث كرس نفسه كما كثيرين في قافلة من باتوا يمثلون الفدائية الثقافية، أو فدائية فنيّة مبدعة، وبكري يمثلها بأرق وأرقى معانيها.
أما سعيد نفاع، الأمين العام لاتحاد الكتاب الفلسطينيين في الكرمل، فأكد: نحن كعرب فلسطينيين في الداخل نعيش في بلادنا حالة شبه مستحيلة، يستطيع المرء أن يصوغها بكلمات معدودات بعيدًا عن المفردات السياسية، بحيث نعيش في دولة تريد لنا أن نكره كلّ ما يحبّ شعبنا، وأن نحبّ كلّ ما يكره شعبنا، وأن نتخذ حليفًا كل عدو لشعبنا، ونتخذ عدوًا كلّ صديق لأبناء شعبنا .. لم يكن مرّة الطرح الوطني لدينا نقيض الطرح الحياتي، مشددًا على أن مواقف محمد بكري من الصهيونية والاحتلال هي ما تقوده إلى المحاكمة، خاصة أنه لطالما أكد على أن الصهيونية عدوة لشعبه في احتلال الأرض، وسلب حريتهم وتعذيبهم، فاضحًا عنصرية هذه الحركة، ولا إنسانيتها، وما تحمله من عداء للبشرية.
وكان أدار الندوة مدير مؤسسة محمود درويش في الجليل، عصام خوري، الذي افتتحها بالقول: لسنا هنا للتضامن مع محمد بكري على المستوى الشخصي، وإنما على ما يمثله في المستوى السياسي والاجتماعي والثقافي والوطني والإنساني .. من الطبيعي أن نتضامن مع فنان كبكري، ونحن بهذا التضامن نتضامن مع أنفسنا، وفلسطينيتنا، وإنسانيتنا.
قد يهمك ايضاً :
"بيروت ترنم" يستذكر في دورته الـ12 بيتهوفن ومحمود درويش
"أيام صفاقس السينمائية" تعرض فيلمين للمخرج الفلسطيني محمد بكري
أرسل تعليقك