يذهب أغلب المحللون والمراقبون الدوليون إلى أن أزمة الليرة التركية الأخيرة ليست إلا بمثابة رأس جبل الجليد، بينما جذورها تمتد إلى سنوات طويلة مضت، موضحين أن الخلاف الأميركي التركي الأخير لم يكن بدوره سببًا أساسيًا في التدهور الحاصل في تركيا؛ بل السبب الأبرز هو سياسات الرئيس التركي نفسه، والذي يحاول التنصل من ذلك عبر إلقاء اللوم على الآخرين.
وقالت مجلة "فورين بوليسي" الأميركية إن تركيا تخوض معركة اقتصادية خاطئة حين تعتبر أزمة الليرة المتفاقمة منذ أشهر نتاجًا صرفًا للنزاع الدبلوماسي الأخير مع واشنطن، بينما ساهمت عوامل كثيرة في التدهور غير المسبوق لعملة البلاد.
وأوضح التقرير، أن تدهور العملة سيؤثّر بشكل كبير على الشركات التركية التي تتلقى عائداتها بالليرة أو تملك أصولًا بالعملة نفسها، إذ ارتفعت ديونها بشكل لافت على اعتبار أنها ستسدد ما بذمتها بكل من الدولار واليورو. وفي المقابل، لن تتأثر شركات تركية محدودة بفضل اعتمادها على استثمارات في الخارج.
وفقدت العملة التركية ما يقارب الثلث من قيمتها في غضون شهر، وتراجعت بصورة لافتة بعدما فرضت الولايات المتحدة عقوبات اقتصادية على أنقرة ولوحت بإجراءات عقابية جديدة في حال لم تفرج أنقرة عن القس الأميركي أندرو برانسون.
وأثرت الأزمة على البنوك التركية وسط مخاوف أن تؤدي إلى موجة إفلاس، ولم تقف الآثار عند هذا الحد، إذ أرخى هبوط الليرة بظلاله على أسواق مالية صاعدة، كما أثر على قيمة أسهم في كل من نيويورك ولندن.
ويتوافق التنبيه الذي قدمته "فورين بوليسي" مع تحذير سابق من المعارضة التركية، إذ قال زعيم حزب الشعب الجمهوري، كمال كيليجدار أوغلو، مؤخرا، إن الرئيس إردوغان، يستخدم قضية القس لأجل تحقيق مآربه وإخفاء فشله الاقتصادي.
ويرى كيليجدار أن أزمة الليرة ليست ناجمة عن أزمة واشنطن وأنقرة الأخيرة، ويوضح أن عددًا من الاقتصاديين حذّروا قبل أشهر من الكارثة، لكن الرئيس التركي لم يستجب وفضّل عدم الإنصات.
وترى المجلة أن جذور أزمة الليرة التركية تعود بالأساس إلى السياسات التي انتهجها أردوغان لأجل استمالة الناخبين وكسب الانتخابات على مدى أعوام طويلة، واستطاعت أنشطة بناء واسعة قامت بها شركات قريبة من الحكومة أن تقود إلى نسبة نمو بلغ متوسطها 6.8 في المائة خلال هذا العقد، أما حجم الاقتصاد التركي فوصل إلى 880 مليار دولار.
ويقول المستثمر هارون ميسيت: "كان من الواضح أن انهيارا سيحصل، لقد طلبت مرارا من أصدقائي طيلة سنوات أن يتوقفوا عن منافسة بعضهم البعض في مجال البناء"، لكنهم لم يفعلوا والنتيجة أن هناك ما يقارب 800 ألف بيت لم يجر بيعه بعدما تعرضت سوق العقار لإغراق كبير.
وتقول "فورين بوليسي" إن تركيا تحولت إلى ما يشبه ورش بناء، ولذلك صارت صناعة البناء تشكل قرابة عشرة في المائة من الإنتاج في البلاد، ومنذ سنة 2001. تجاوزت واردات تركيا من مواد البناء ومنتجات أخرى صادرات البلاد.
وبسبب ذلك ارتفع عجز الحساب الجاري لتركيا إلى 50.2 مليار دولار، بينما لجأت الحكومة التركية وشركات وبنوك ومصانع ومطاعم أخرى في البلاد إلى تلقي قروض خارجية بنسب فائدة مشجعة، وتبعا لذلك، ارتفعت الديون إلى 460 مليار دولار أي ما يزيد عن نصف ناتج تركيا المحلي.
وكان رغم تفاقم الأزمة، لم تتخذ تركيا إجراءات كفيلة ببث الطمأنينة في نفوس المستثمرين والمؤسسات الدولية، وقبل أيام قليلة، أعلنت مؤسسة "ستانرد آند بورز" خفض تصنيف تركيا الائتماني وتوقعت أن تؤدي أزمة الليرة إلى انكماش في الاقتصاد خلال العام المقبل، بينما يقول إردوغان إن بلاده ستفوز فيما يسميها بـ"حرب اقتصادية" على بلاده.
وتورد "فورين بوليسي" أن السوق التركية لم تقتنع بالخطوات التي تم إعلانها لأجل دعم الليرة مثل تعهد قطر باستثمار 15 مليار دولار، وتأكيد كل من فرنسا وألمانيا دعمها لأنقرة في ظل الوضع الاقتصادي الصعب الذي تجتازه في الفترة الأخيرة، ويحاول أردوغان ربط الأزمة بالولايات المتحدة حتى يكسب تأييدًا شعبيًا وسط الإحباط والقلق.
ولم يقتصر تحليل الوضع التركي على "فورين بوليسي"، إذ ذهب محللون آخرون تحدثوا لوكالة الصحافة الفرنسية إلى ذات التصور. وقالوا إن الرئيس التركي يستغل الخلاف المرير بين بلاده والولايات المتحدة لإلقاء اللوم في المشاكل الكبيرة التي يواجهها الاقتصاد التركي على "عدو خارجي" وليس على المشاكل داخل بلاده.
و حذّر محللون بأن الاختلالات الاقتصادية تعني أن اقتصاد تركيا سيواجه مشاكل كبيرة، حتى قبل العقوبات التي أعلنها ترمب وأدت إلى انخفاض حاد في سعر الليرة التركية.
وسمحت الإجراءات التي اتخذتها إدارة ترامب لأردوغان بإلقاء اللوم في المشاكل الاقتصادية وانهيار الليرة على البيت الأبيض، واللعب على المشاعر المناهضة للولايات المتحدة المنتشرة في مختلف فئات المجتمع التركي.
قال سونر كاغابتاي، مدير "برنامج الأبحاث التركي" في معهد واشنطن، إن سيطرة إردوغان على الإعلام التركي، والتي عززها بعد التغييرات الأخيرة في ملكيتها، سمحت للسلطات وبسهولة برسم الولايات المتحدة في صورة الشرير.
وأضاف "أعتقد أن إردوغان قرر أنه رغم أنه لم يكن يريد للأزمة مع الولايات المتحدة أن تصل إلى ما وصلت إليه، إلا أنه قرر كذلك استغلالها ,أردوغان يستطيع أن يُحدد شكل روايته للأزمة لأنه يسيطر على 90 في المائة من الإعلام. ويستطيع الآن أن يربط الأزمة الاقتصادية في تركيا والناجمة عن سياساته، بالعقوبات الأميركية فقط".
وقبل أن يتسبب ترامب في انهيار الليرة من خلال تغريدة في العاشر من أغسطس /آب الجاري، أعلن فيها عن مضاعفة الرسوم على واردات بلاده من الصلب والألمنيوم التركي، كانت السحب تتجمع فوق الاقتصاد التركي بعد ارتفاع التضخم ليبلغ 16 في المائة وتوسع العجز في الحساب الجاري.
و تسبب أردوغان في تقويض الثقة في العملة من خلال تصريحاته المتكررة التي اعتبرها بعض اللاعبين في السوق بأنها مربكة. فقد وصف معدلات الفائدة بأنها "أب وأم كل الشرور"، وقال إن البلاد بحاجة إلى معدلات الفائدة المنخفضة لخفض التضخم.
وأدهش أردوغان المراقبين بتعيين صهره براءت البيرق، وزير الطاقة السابق، على رأس وزارة المالية الجديدة الموسعة، رغم أنه يفتقر إلى الخبرة في الأسواق المالية.
وسارع أردوغان فور أن أطلق ترامب الأزمة بشأن احتجاز السلطات التركية للقس الأميركي أندرو برانسون، إلى التنديد بـ"مؤامرة" تهدف إلى "تركيع" تركيا. واصطف الإعلام الرسمي وراء إردوغان في التنديد بما وصفه بأنه "انقلاب اقتصادي"، وقارن بينه وبين المحاولة الانقلابية للإطاحة بأردوغان في 2016.
وقال سنان أولغين، رئيس مركز الاقتصاد والسياسة الخارجية، إن استراتيجية أردوغان "تهدف في الأساس إلى حشد الدعم الشعبي في وقت الأزمة الاقتصادية". ويجد خطاب إردوغان صدى واسعًا في المجتمع التركي الذي تنتشر فيه مشاعر قوية مناهضة للولايات المتحدة تفاقمت بعد المحاولة الانقلابية الفاشلة.
ويعيش فتح الله غولن الداعية الإسلامي الذي تتهمه أنقرة بأنه وراء المحاولة الانقلابية، في منفاه الاختياري في بنسلفانيا منذ 1999. و قاد ذلك الكثيرين ومن بينهم مسؤولون أتراك كبار، إلى الاعتقاد بأن للولايات المتحدة يداً في المحاولة الانقلابية. ورفضت الولايات المتحدة تلك المزاعم، فيما أكد غولن أنه ليس له أي يد في المحاولة الانقلابية.
ويلقى الخطاب المناهض للولايات المتحدة يلقى صدى قويًا في تركيا رغم أن أنقرة وواشنطن عضوان في حلف شمال الأطلسي منذ 1952. وبحسب استطلاع أجراه مركز "سنتر فور أميركان بروغريس" في وقت سابق من العام، فإن 10 في المائة فقط من الأتراك ينظرون إلى واشنطن بعين الرضا، بينما عبر 83 في المائة منهم عن آراء غير جيدة تجاهها.
وأعلن أردوغان، الذي يستخدم أجهزة شركة أبل الأميركية، أن تركيا ستقاطع هواتف آيفون وأجهزة الشركة العملاقة. وسرعان ما ظهرت صور على مواقع التواصل الاجتماعي لأنصار إردوغان وهم يحطمون هواتفهم الآيفون.
و تعرضت السفارة الأميركية في أنقرة الاثنين إلى إطلاق نار، وسارعت الحكومة إلى إدانة الحادث ووصفته بأنه "استفزاز" وتعهدت بمحاسبة مرتكبيه. وقال دبلوماسي أوروبي طلب عدم الكشف عن هويته إنه "من خلال تصرفاته، فإن دونالد ترامب يخفي الأشخاص المسؤولين حقاً عن الوضع الاقتصادي في تركيا". وأضاف: "هناك شخص واحد فقط هو من يمنع البنك المركزي من التصرف، ويمنع وزير المالية من اتخاذ الإجراءات الضرورية"، محذرا من أن تركيا مخطئة إذا كانت تعتقد أنها "يمكن أن تحمل الولايات المتحدة... وبخاصة الرئيس دونالد ترمب المسؤولية".
ويرى سنان أولغين أنه إذا لم يتم رفع أسعار الفائدة؛ فإن "قدرة البنك المركزي ووزارة المال على طمأنة الأسواق ستضعف بشكل كبير".
أرسل تعليقك