تقترب الحمائية من السيطرة على العالم مع صعود اليمين في الدول الغربية، وأصبحت عملية مواجهة إغراق الأسواق بالواردات الأجنبية، أولوية على أجندة الانتخابات الرئاسية في أوروبا، بعد قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، أما أميركا الشمالية، قائدة الانفتاح على العالم، فتستعد إلى بناء سور بين جيرانها، ولكن في شرق آسيا تبدو الأوضاع مستقرة.
وتخوّفت الدول النامية، في السبعينات مع فورة تحرير التجارة حول العالم، من أن تغرق الدول الغنية أسواق الفقراء ببضائعها المتقدمة، ولكن بعد أربعين عاماً جاءت الشكوى من الناحية الأخرى من البحر، وقالت الدول الغربية إنها لا تريد حرية أكثر، بينما تقود الصين النمو العالمي منذ عقود، وخليفة القيادة ستكون الجارة الهندية.
وتناقش الصين هذه الأيام مستقبلها الاقتصادي في الأجل القصير، والسمة الغالبة هي التوازن بين التوسع خارجياً ودعم وتنشيط الطلب المحلي، لخلق نمو مستقر، يصعب تأثره بالأزمات الداخلية والخارجية. الاثنين الماضي، قال مسؤول في اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في الصين إن بلاده ستتخذ المزيد من الخطوات لدعم الاستثمار الخاص في الوقت الذي تتطلع فيه إلى الحفاظ على النمو الاقتصادي القوي، وفي الوقت الذي تجري فيه إصلاحات هيكلية.
وأجبر التباطؤ الحاد في الاستثمار الخاص، في العام الماضي، بكين على الاعتماد أكثر على الإنفاق الحكومي، والمزيد من الشركات الحكومية التي تفتقر إلى الكفاءة للوصول إلى النمو المستهدف مما، ترك الاقتصاد غير متوازن، هذا العام سيتم الاعتماد على القطاع الخاص، وبيّن نائب رئيس اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح، تشانغ يونغ، أن الاستثمار الخاص يستقر، وإن الإجراءات التي جرى اتخاذها لتعزيز هذا الإنفاق بدأت تؤتي ثمارها، مشيرًا إلى أنّ الصين ستقلّص العقبات أمام دخول الاستثمار الخاص وتبسط القواعد، وتدعم الاستثمار بشكل أكبر عبر برامج للشراكة بين القطاعين الخاص والعام. وتتطلع الصين إلى تقليص المخاطر الناجمة عن سنوات من التحفيز المدعوم بالائتمان، والذي يتركز في قطاعات حكومية مثقلة بالديون في الوقت الذي تحافظ فيه على معدل نمو مرتفع.
وبيّن رئيس وزراء الصين، لي كه تشيانغ، في أول تقرير عمل له، في افتتاح الاجتماع السنوي للبرلمان، الأحد الماضي، أن الحكومة خفضت النمو المستهدف إلى 6.5 في المائة لعام ،2017 وذلك من نطاق بين 6.5 و7 في المائة في العام الماضي، أما الاستثمار الساخن فقد سجلت الصين فيه نجاحا ملحوظًا، ويوم الثلاثاء الماضي، تم إعلان ارتفاع احتياطيات الصين من النقد الأجنبي على نحو غير متوقع للمرة الأولى في ثمانية أشهر في فبراير/شباط الماضي، متجاوزة 3 تريليونات دولار، في الوقت الذي ساهمت فيه حملة تنظيمية صارمة، وتراجع الدولار في تعزيز تدفقات رأس المال. وزادت الاحتياطيات 6.92 مليار دولار خلال فبراير/شباط لتصل إلى 3.005 تريليون دولار في أول زيادة منذ يونيو/حزيران 2016 مقارنة مع انخفاض بلغ 12.3 مليار دولار في يناير/كانون الثاني الماضي حين هبطت الاحتياطيات إلى 2.998 تريليون دولار.
وتوقّع خبراء اقتصاد انخفاض احتياطيات النقد الأجنبي 25 مليار دولار إلى 2.973 تريليون دولار في فبراير/شباط، ولكن الحكومة خيبت ظنهم وحققت إنجازا محترما، وشددت الصين القواعد المتعلقة بنقل رأس المال إلى خارج البلاد في الأشهر الأخيرة، في الوقت الذي تسعى فيه لدعم اليوان، ووقف تراجع احتياطاتها من النقد الأجنبي، واستهلكت الصين نحو 320 مليار دولار من الاحتياطيات العام الماضي لكن اليوان هبط على الرغم من ذلك 6.6% مقابل الدولار ليسجل أكبر انخفاض سنوي منذ 1994، واستقر اليوان في الأسابيع الأخيرة مع انحسار زخم ارتفاع الدولار. وربحت العملة الصينية 0.2% في فبراير/شباط وارتفعت 0.8% منذ بداية 2017، لكن التوقعات بزيادة أسعار الفائدة الأميركية والمقرر النظر فيها الأسبوع المقبل، أذكت المخاوف بأن اليوان قد يتعرّض إلى ضغوط من جديد، وقد يشعل احتمال تخفيض قيمته فتيل توترات تجارية مع إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب.
وزادت احتياطات الصين من الذهب إلى 74.376 مليار دولار بنهاية فبراير/شباط من 71.292 مليار دولار بنهاية يناير/كانون الثاني، وفق ما أظهرته بيانات نشرها بنك الشعب الصيني "البنك المركزي" على موقعه الإلكتروني، وقالت سلطات الجمارك الصينية الأربعاء، إن واردات الصين ارتفعت بنسبة 38.1% في فبراير/شباط الماضي مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي، ويرجع ذلك إلى ارتفاع أسعار السلع، وبلغ حجم الواردات، الشهر الماضي 129.2 مليار دولار.
وتراجعت الصادرات بنسبة 1.3% مقارنة بالشهر نفسه من العام الماضي لتصل إلى 120.1 مليار دولار، وقد سجلت الصين عجزا في الميزان التجاري بلغ 9.15 مليار دولار، ويشار إلى أن هذه أول مرة منذ 3 أعوام تتجاوز فيها واردات الصين صادراتها، ويرجع ارتفاع الواردات إلى الطلب المرتفع من الشركات الصينية على المواد الخام مثل الحديد والنحاس والزيوت، التي ارتفعت أسعارها بصورة كبيرة العام الماضي.
وخفضت الصين معدل النمو الاقتصادي المستهدف للعام الحالي، في الوقت الذي تعتزم فيه الحكومة خفض معدلات نمو الديون وتعزيز الاستقرار المالي، وأكّد رئيس الوزراء الصيني، لي كيشيانغ أمام مؤتمر الشعب القومي، البرلمان الصيني، الأحد الماضي أن الحكومة تستهدف تحقيق نمو اقتصادي بمعدل 6.5% تقريبا خلال العام الحالي.
وحقّقت الصين نموًا اقتصاديًا بمعدل 6.7% خلال العام الماضي وهو ما جاء متفقا مع المستهدف الحكومي الذي كان يتراوح بين 6.5% و7% من إجمالي الناتج المحلي، فيما تتباطأ وتيرة نمو الاقتصاد الصيني باطراد، في الوقت الذي تحاول فيه الحكومة تحويل النمو من الاعتماد على التصدير إلى الاعتماد على الاستهلاك المحلي، وقال لي كيشيانغ أن معدل النمو المستهدف للعام الحالي يتفق مع هدف خلق "مجتمع مزدهر بطريقة معتدلة".
وبحسب التقرير المقدّم إلى الاجتماع السنوي للبرلمان الصيني، فإن الحكومة تستهدف معدل تضخم قدره 3% تقريباً خلال العام الحالي، وهو معدل التضخم في العام الماضي نفسه. كما تستهدف الصين توفير أكثر من 11 مليون وظيفة جديدة خلال العام الحالي، وأشار تقرير العمل المقدّم إلى البرلمان إلى اعتزام الحكومة مواصلة جهود خفض فوائض الطاقة الإنتاجية في القطاع الصناعي وتقليل المعروض في سوق العقارات، وتقليص المديونيات في القطاع المصرفي، وأوضح كيشيانغ أن الحكومة ستقوم بإصلاحات في المجالات الأساسية لمواجهة المخاطر ذات الصلة بالديون المتعثرة والسندات المشكوك في تحصيلها والنظام المصرفي الموازي "غير الرسمي" والخدمات المالية عبر الإنترنت.
وأضاف رئيس الوزراء أنه سيتم تحرير سعر صرف العملة الصينية اليوان بصورة أكبر، وذلك بعد ضمه لسلة العملات الرسمية لصندوق النقد الدولي.
وأفاد مدير مكتب أبحاث مجلس الدولة، هوانغ شو هونغ، الذي ساعد في صياغة تقرير رئيس الوزراء، أن نموًا بنحو 6.5% سيكفي لحماية التوظيف، وأضافت الصين 13.14 مليون وظيفة جديدة في المدن عام ،2016 وسجل عدد خريجي الجامعات الذين عثروا على وظائف أو بدأوا مشروعات رقماً قياسياً، وقال هوانغ إنّه "فيما يتعلق بحد أدنى للنمو فما دام التوظيف بلا مشاكل فإن نمواً أعلى أو أقل بقليل سيكون مقبولاً"
وكشف النائب عن هونغ كونغ في البرلمان الصيني ومؤسس متاجر الملابس جي2000، مايكل تين، أنه مندهش لرقم النمو البالغ 6.5 في المائة، مضيفًا أنّه "أعتقد أنه بالغ الارتفاع، في الأعوام القليلة الماضية كانوا يحققون أي رقم يأتون به بل ويتجاوزونه بهامش طفيف، لذلك ومع هذا الاقتصاد فإن 6.5 في المائة رقم مذهل"، ويقول الاقتصاديون إنه من الصعب تحقيق التوازن بين دعم النمو والمحافظة على السيولة وفي الوقت نفسه المضي في إصلاحات وترويض القوى المالية الجامحة، ولكن الصين يبدو أنها ستنجح.
وتحدّد هدف نمو المعروض النقدي بمفهومه الواسع عند نحو 12 في المائة لعام 2017 من نحو 13 في المائة في 2016. ومع ذلك ظل هدف عجز الميزانية الحكومية دون تغيير عند ثلاثة في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. وقال لي إن الصين ستواصل تطبيق سياسة مالية استباقية، مضيفاً أن الحكومة تهدف إلى خفض أعباء الضرائب عن الشركات نحو 350 مليار يوان "51 مليار دولار" هذا العام، وأضاف أن الصين ستواصل انتهاج سياسة نقدية تتسم بالحذر والحياد.
وقال لي إن المخاطر الشاملة تحت السيطرة في الوقت الحالي، لكن على الصين أن تتحلى باليقظة التامة وأن تشيد "سياجا" للحماية من المخاطر المالية، وقدمت البنوك الصينية مستوى قياسيًا من القروض بلغ 12.65 تريليون يوان في 2016 وتظهر بيانات حديثة أن القروض الجديدة باليوان بلغت 2.03 تريليون يوان في يناير/كانون الثاني، وهو ثاني أعلى مستوى على الإطلاق، مشيرًا إلى أنه "سنطبق مجموعة كاملة من أدوات السياسة النقدية، ونحافظ على استقرار السيولة، ونعمل على أن تظل أسعار الفائدة في السوق عند مستوى ملائم، ونحسن آلية انتقال السياسة النقدية".
وأصبح العالم أقل تأثرًا بنشرات مخاطر التلوث، والإدارة الأميركية الجديدة واضحة في تغليب هدف النمو على هدف حماية البيئة، ولكن الصين أمرها مختلف، وتعتزم الصين خفض طاقة إنتاج الصلب 50 مليون طن، وطاقة إنتاج الفحم أكثر من 150 مليون طن هذا العام، حسبما ذكرت هيئة التخطيط الرئيسية مع تعزيز بكين جهودها لمحاربة التلوث، وحل مشكلة الطاقة الإنتاجية الفائضة.
وكشفت اللجنة الوطنية للتنمية والإصلاح في تقرير عمل أنها ستغلق أو توقف أعمال البناء بمحطات كهرباء تعمل بالفحم تزيد قدرتها على 50 مليون كيلو وات، وتأتي التعهدات في إطار مساعي بكين منذ سنوات من أجل تقليص حصة الفحم في مزيج الطاقة بهدف الحد من التلوث الذي يخنق مدن الشمال، وتحقيق الأهداف المتعلقة بتغير المناخ مع زيادة تنظيم الصناعات المتخمة بالطاقة الإنتاجية والملوثة للهواء مثل صناعة الصلب.
وأوضحت الخبيرة الاقتصادية في مكتب "نومورا"، وندي تشن، أن خفض هدف النمو سيسمح أيضاً بمواصلة تقليص الفائض الهائل في القدرات الإنتاجية في مجالي التعدين والفحم، وتؤكد حكومة الصين بهذا الصدد أن الصين ستخفض بـ150 مليون طن القدرات الإنتاجية السنوية في قطاع الفحم، مع تحديد هدف يقضي بتخفيض قدره 800 مليون طن بحلول 2020. متعهدة بشنّ "حرب بلا هوادة" من أجل إعادة إحلال "سماء صافية" في الصين، ولا يزال الفحم يؤمّن إنتاج نحو 60% من الكهرباء في الصين، مساهماً في التلوث الذي يؤدي إلى انتشار الضباب في المدن الكبرى.
في المقابل، لا تعتزم بكين التخلي عن دعمها التوجيهي للاقتصاد، ولو أدى ذلك إلى زيادة العجز، وستستثمر هذه السنة 355 مليار يورو في مشاريع سكك الحديد والطرقات العامة والمجاري المائية، ويبدو أن الرئيس شي جينبينغ يميل إلى الاعتماد على الموارد التقليدية لإبقاء الاقتصاد بمستوى مقبول، مع العمل على ضبط تجاوزات النظام المالي بشكل أفضل، والهدف هو الحفاظ على الاستقرار قبل استحقاق مرتقب في الخريف، مع انعقاد المؤتمر الخمسي للحزب الشيوعي الذي سيتقاعد خلاله غالبية الأعضاء السبعة في اللجنة الدائمة للمكتب السياسي للحزب، الهيئة العليا للنظام.
ورأى الخبير السياسي في جامعة هونغ كونغ المعمدانية جان بيار كابيستان أن "لي كي تشيانغ أعطى انطباعاً بأنه يسعى لتهيئة الأذهان" لانهيار الفورة المالية، لكنه لفت إلى أن "المخاطر الاقتصادية لن تمنع شي من تعزيز سلطته وتوزيع رجاله في أعلى هرم" السلطة.
وتدعم الصين الطلب المحلي، ولكنها لا تهمل الخارج، فقد استثمرت الصين أكثر من 50 مليار دولار في الدول الواقعة على حزام طريق الحرير، منذ إطلاق مبادرة الحزام والطريق عام 2013. هذا بالإضافة إلى دعم التنمية في الكثير من الدول، واستمرار تحالف بريكس، وإنشاء البنك الآسيوي لدعم البنية التحتية، وبحسب رئيس هيئة الإصلاح والتنمية الوطنية الصينية، هي ليفنغ، في مؤتمر صحافي على هامش الاجتماع السنوي للبرلمان الصيني، أن "مبادرة الحزام والطريق" تحظى بدعم أكثر من 100 دولة ومنظمة دولية من خلال نحو 50 اتفاقية تعاون تم توقيعها بين الحكومات، وأضاف أن التقدم الذي تحققه المبادرة "أفضل من المتوقّع"
وأشارت وكالة أنباء الصين الجديدة، "شينخوا"، إلى أن الصين كانت قد أطلقت هذه المبادرة بهدف توفير شبكة للتجارة والبنية التحتية تربط بين آسيا وأوروبا وأفريقيا على امتداد طرق التجارة العالمية القديمة مثل طريق الحرير، وفي إطار هذه المبادرة تستثمر الصين في مشروعات الطيران والطاقة والسكك الحديدية والطرق البرية والاتصالات في الدول المشاركة في المبادرة. يأتي ذلك فيما تستضيف الصين في مايو/أيار المقبل منتدى رفيع المستوى حول مبادرة الحزام والطريق بهدف تعزيز التعاون بين جميع أطراف المبادرة.
أرسل تعليقك