عمال فلسطينيون في مصنع بغزة يقومون بتصنيع أقنعة وسترات للوقاية من فيروس {كورونا} لتصديرها إلى إسرائيل والضفة الغربية (نيويورك تايمز) بدت مهارات الحياكة لدى الخياط زياد قاسم، تلك المهنة التي أتت على 25 عاماً من عمره، بلا قيمة حقيقة في ظل الأوضاع الاقتصادية القاسية التي يعاني منها قطاع غزة المحاصر، فهو عاطل عن العمل تماماً منذ ما يربو على 8 أشهر، مع تراكم الديون، والتزامه منزله أغلب الوقت، تساوره الشواغل والمخاوف بشأن كيفية إعالة زوجته وأطفاله الخمسة، وجاء الإنقاذ لزياد قاسم بقدوم فيروس كورونا الوبائي الجديد!
فمع ارتفاع الطلب في كل أرجاء العالم على الكمامات والأقنعة والملابس الواقية، اجتاحت أوامر الشراء الجديدة أغلب مصانع الملابس في قطاع غزة منذ أوائل مارس (آذار) الماضي، من جانب مختلف التجار من كل الأماكن، بما في ذلك إسرائيل، التي ينظر إليها أغلب سكان قطاع غزة من الفلسطينيين على أنها العدو اللدود الأول. وعرضت شركة الزهراء للملابس على زياد قاسم، البالغ من عمره 42 عاماً، وظيفة لقاء 12 دولاراً في اليوم الواحد مقابل الاستعانة بمهارته المتقنة في العمل على ماكينة الحياكة في مصنع الشركة.
يقول زياد قاسم عن ذلك: «يمكنني تنفس الصعداء الآن، ويمكنني شراء بعض الأشياء لأسرتي، عندما كنت بلا عمل، كنت أشعر بإحباط نفسي عميق، ولم يكن معي أي أموال أعطيها لأطفالي». وعبر كل أنحاء العالم، أسفر وباء كورونا الراهن عن تدمير الاقتصادات وأدى إلى ارتفاع معدلات البطالة بصورة كبيرة غير مسبوقة. غير أن قدوم فيروس كورونا كان بمثابة النعمة العظيمة على صناعة الملابس في غزة، حيث البطالة المرتفعة، والفقر المدقع، والاعتماد شبه الكامل على الإعانات الأجنبية تحمل سمات وبائية هي الأخرى.
كانت صناعة الملابس، في وقت من الأوقات، من أهم ركائز الاقتصاد المحلي في قطاع غزة الذي ينتشر فيه 900 مصنع يعمل فيها ما يقرب من 36 ألف مواطن فلسطيني. غير أن تلك الصناعة قد انهارت في عام 2007 إثر بسط حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، سيطرتها على القطاع، وقررت حظر تصدير الملابس من قطاع غزة إلى إسرائيل أو إلى الضفة الغربية التي تحتلها إسرائيل.
يقول محمد أبو جياب، رئيس تحرير صحيفة «الاقتصادية» الفلسطينية الصادرة من قطاع غزة: «شهدت مصانع الملابس خسائر مدمرة، ولقد خرجت من نطاق الأعمال تماماً منذ ذلك الحين». وسمحت السلطات الإسرائيلية، بعد حرب قطاع غزة في عام 2014، لصناع الملابس من القطاع باستئناف تصدير المنتجات، ما شكل الأساس لإحياء الصناعة على نحو متواضع داخل القطاع.
وبحلول عام 2019، كان هناك أكثر من 200 مصنع يعمل فيها نحو 6 آلاف عامل، وفقاً لبيانات الاتحاد الفلسطيني لصناعات الملابس والمنسوجات والجلود، على الرغم من أن العمال وأرباب الأعمال أفادوا بأن الأجور اليومية لا تتعدى 8.50 دولار عن اليوم الواحد. أما الآن، فشرع نحو 12 مصنعاً في إنتاج الكمامات، والأقنعة، والملابس الواقية، ويواصل كثير من المصانع تعيين العمال والموظفين الجدد، مع زيادة ساعات الدوام أو حتى العمل بنظام التعاقد من الباطن مع المتاجر الصغيرة.
وفي مدينة غزة، كان الطابق الأرضي من مصنع الزهراء للملابس مليئاً بكثير من العمال الذكور خلال الأسبوع الجاري، حيث يواصلون العمل على حياكة الأقنعة ذات اللون الأزرق الفاتح، في حين يعمل الآخرون في سرعة واضحة على قص أنسجة النايلون مع استخدام ماكينات الحياكة القديمة على تجميعها لإنتاج الملابس الواقية في النهاية.
وكانت هناك مسافة تبعد بضعة أقدام بين كل عامل وزميله على الأقل، ولكن كان عدد قليل من الموظفين يرتدون الأقنعة الواقية على وجوههم. وقال مالك المصنع، محمد عودة، البالغ 42 عاماً من عمره، إنه رفع القوة العاملة في المصنع من 30 إلى 55 عاملاً مع تمديد ساعات الدوام في المناوبة الواحدة من 8 إلى 12 ساعة يومياً. واستطرد عودة يقول: «لقد أعاد فيروس كورونا الحياة مجدداً إلى مصنعنا. ولم تجلب لنا الكمامات والأقنعة مزيداً من العمل فحسب، وإنما أتاحت المجال أيضاً لاستمرار العمل طوال الوقت خلال الأزمة الراهنة».
وتعمل شركة «يونيبال 2000»، وهي شركة صناعة الملابس الكبيرة في المنطقة الصناعية في مدينة غزة، على إنتاج ما يصل إلى 50 ألف قناع واقٍ، و15 ألف قطعة من الملابس الواقية في اليوم الواحد، ولقد ضاعفت من القوة العاملة لديها من 850 عاملاً إلى 1250 عاملاً، كما أفاد بشير البواب المالك المشارك في الشركة.
وأضاف بشير: «أود لو أن الجميع في صحة جيدة وعافية وأن يختفي الفيروس من عالمنا تماماً، غير أن صناعة هذه المنتجات قد منحتنا فرصة مهمة للغاية». وقال روتيم كوهانيم (37 عاماً)، وهو تاجر من مستوطنة «بيت حورون» الإسرائيلية في الضفة الغربية، إنه يستعين بمصانع الملابس في قطاع غزة لإنتاج معدات الحماية الشخصية التي يباشر بيعها، نظراً لأن العمالة لديهم جيدة للغاية، وينتجون الأشياء بسرعة، وبتكاليف زهيدة.
ويواصل عمال المصانع الوجود في مناوبات العمل بانتظام. ولقد تخلى الفيروس نفسه عن الوجود بصورة كبيرة بين سكان القطاع البالغ تعدادهم قرابة مليوني نسمة، وذلك بسبب الضوابط الصارمة التي تفرضها سلطات الاحتلال الإسرائيلي على المعابر الحدودية، فضلاً عن قرار حركة حماس بعزل كل السكان العائدين من منشآت الحجر الصحي لمدة ثلاثة أسابيع.
ومن المعروف تعرض 17 مواطناً فقط من سكان القطاع للإصابة بفيروس كورونا، مع عدم الإبلاغ حتى الآن عن أي حالات وفيات. وإجمالاً للقول، تمكنت مصانع الملابس في قطاع غزة من إنتاج ملايين الأقنعة والكمامات الواقية، ومئات الآلاف من الملابس والسترات الواقية، وفقاً لإفادات كبار صناع الملابس في القطاع، الذين يواصلون العمل بصفة عامة على المواد الخام المستقدمة من إسرائيل وتصدير المنتجات النهائية إلى هناك، أو إلى الضفة الغربية ولكن بنسبة أقل. وتتراوح أسعار الكمامات الواقية من النماذج رخيصة الثمن بأقل من 50 سنتاً إلى النماذج فائقة الجودة التي تُباع بـ50 دولاراً للقناع الواحد.
كما قام بعض المصانع بتلبية طلبات الشركاء من إسرائيل لإنتاج الأقنعة والملابس ذات التصاميم الخطيرة من الناحية السياسية، كما يُقال على أدنى تقدير، إذ يتميز بعضها بوجود العلم الإسرائيلي عليها، أو شعار منتخب كرة القدم الإسرائيلي الوطني، فضلاً عن مصلقات «صُنع في إسرائيل» التي توضع عليها. وقال العديد من الخياطين الذين تحدثنا إليهم إنهم لا يشعرون بأي حرج في صناعة الأقنعة والكمامات التي تستخدم في حماية الناس من الوباء الفتاك داخل إسرائيل، تلك التي خاضت 3 حروب دموية مع الجماعات المسلحة في قطاع غزة على مدار السنوات الـ12 الماضية، بالإضافة إلى عدة مناوشات عسكرية صغيرة. وقال رائد دحمان، العامل البالغ من العمر 42 عاماً لدى مصنع «حسانكو» في مدينة غزة: «في نهاية الأمر، كلنا بشر، وينبغي أن نحاول التأكد من سلامة وعافية الجميع من دون استثناء».
وقالت منظمة «غيشا»، وهي من المنظمات الحقوقية الإسرائيلية وثيقة الصلة برصد الأوضاع في قطاع غزة، إنه ينبغي على السلطات الإسرائيلية تخفيف القيود التي تفرضها على التحرك من وإلى القطاع من أجل مساعدة الاقتصاد المحلي هناك على مزيد من العمل والإنتاج.
وقالت المنظمة ذاتها في بيان صادر عنها: «تعيد مصانع الملابس في قطاع غزة ضبط خطوط الإنتاج لديها لصناعة معدات ولوازم الحماية الشخصية، ما يعكس قدر الإمكانات التي يملكها القطاع عندما يتمكن من الوصول إلى الأسواق والمواد الخام المطلوبة. وفي فترة ما بعد زوال فيروس كورونا، لا ينبغي أن يكون هناك مكان لمزيد من القيود المفروضة غير الضرورية على التحرك، تلك التي تحبط سبل العيش والحياة والصحة لمجتمعات وأحياء بكاملها داخل القطاع».
وعلى الرغم من نجاح تجربة القطاع في صناعة معدات الحماية الشخصية، يقول كبار صناع الملابس في غزة إنهم تساورهم المخاوف بشأن عدم استمرار الأوضاع على منوالها في المستقبل المنظور. وقال فؤاد عودة، المسؤول لدى الاتحاد الفلسطيني لصناعات الملابس والمنسوجات والجلود: «فترة وجود فيروس كورونا مؤقتة بكل المقاييس، ما يعني أن الحاجة الماسة والراهنة إلى الكمامات والأقنعة والملابس والسترات الواقية هي حاجة مؤقتة أيضاً، وسوف نضطر في خاتمة المطاف إلى الاعتماد على صناعة الملابس بصورتها المعتادة سابقاً».
ولقد استشعر بعض مصانع الملابس في القطاع بالفعل تراجع طلبات الشراء على معدات الحماية الشخصية، الأمر الذي أرجعه أصحاب المصانع بصورة أساسية إلى وصول شحنات من تلك المعدات واللوازم إلى إسرائيل من الصين. وقال حسن شحادة، صاحب شركة «حسانكو» للملابس، إنه لا يزال يحاول العثور على مشترين لعدد 120 ألف قناع واقٍ معبأة في الصناديق داخل المصنع. وقال بهاء مدهون، مدير مصنع «نور البهاء» في مدينة غزة، إن شركته لديها أوامر شراء معلقة لعدد 20 ألف قناع واقٍ، بانخفاض كبير عن مئات الآلاف من الأقنعة الواقية قبل بضعة أسابيع فقط.
تترك هذه الأوضاع عمال المصانع يشعرون بالقلق من أن الأوقات السعيدة من الأعمال المربحة قد تعقبها عودة إلى الأيام الصعبة والأوقات العسيرة، وذلك مع تعافي العالم من انتشار الوباء الفتاك. وقال رائد عطار، الخياط في مصنع «حسانكو» للملابس، الذي كافح كثيراً من أجل العثور على فرصة عمل ثابتة لمدة عام قبل أن يحصل على الوظيفة في المصنع مؤخراً: «أخشى أن يطلبوا مني فجأة مغادرة العمل والمكوث في المنزل مرة أخرى، حيث تزداد الصعوبات التي أواجهها في حياتي بسبب فقدان العمل».
قد يهمك أيضا :
الصحة العالمية تبرئ الصين وتعلن فيروس كورونا لم ينحدر من معمل ووهان
"بصيص أمل" في الولايات المتحدة بعد تراجع وفيات "كورونا" والصين تُسجِّل حالة إصابة واحدة
أرسل تعليقك