تستدعي الذكرى ال42 لحرب السادس من أكتوبر المجيدة مقاربات للحظة العربية الراهنة التي تتطلب جهدا ثقافيا استراتيجيا برؤى مبدعة للإجابة على اسئلة تتعلق بوجود الأمة وطبيعة النظام العربي الجديد في وقت تتشكل فيه ملامح نظام عالمي جديد بينما يدفع الإرهاب في اتجاه تحويل الأمة العربية "لأمة مستباحة لقوى الخارج".
وفيما تتوالى الطروحات والتعليقات والتقارير في الصحف ووسائل الإعلام المختلفة حول المخططات الخارجية لتفكيك المنطقة العربية وصياغة شرق أوسط جديد فان الإرادة العربية يمكن لو استلهمت ثقافة وروح السادس من أكتوبر أن تحبط تلك المخططات المعادية للأمة العربية.
وتأتي الذكرى ال42 لحرب السادس من أكتوبر وسط متغيرات حادة في المشهد الإقليمي والعالمي ما بين سوريا التي تبدو مستباحة الأرض والسماء أمام القوى الأجنبية ، واليمن التي تتعرض الشرعية فيها لتحديات خطيرة ، وليبيا التي تعاني من عدم التوافق حول تشكيل حكومة وطنية ، ناهيك عن الهجمات المسلحة في العراق ، وقبل ذلك كله الممارسات الاستفزازية الإسرائيلية في القدس والتي بلغت ذروة خطيرة باستهداف المسجد الأقصى من جانب قطعان المستوطنين .
وكما يقول المفكر البحريني الدكتور علي فخرو فان المصائب الوطنية والكوارث القومية في ارض العرب تبدأ بتدمير العمران والاجتماع ثم مرحلة فوضى وضياع فتفكير مضطرب لإيجاد حلول انتهازية مغموسة بالدم والدموع ، موضحا أن مخرج المشهد هو "الخارج" وان استعان بمساعدين من الداخل للقيام بمهام يحددها لهم بكل دقة "بما يخدم مصالح كبار اللاعبين الأغراب في طول وعرض بلاد العرب".
وقد يكون الهدف حسب هذا المفكر البحريني الذي شغل مناصب وزارية غير مرة في بلاده الاستيلاء على ثروة نفطية حتى لا تستعمل في بناء طموحات وطنية او قومية مثلما حدث في العراق ، وقد يكون ايضا تدمير رمز عروبي راسخ في قلب التاريخ العربي وإخراجه من معادلات التوازن كما حدث في سوريا.
ومن المؤلم لمشاعر اي عربي ان يطالع عناوين تقارير تنشر في الصحف ووسائل الإعلام بشأن المشهد السوري ، مثل ذلك التقرير الذي نشرته دورية "نيويورك ريفيو" مؤخرا حول سوريا بعنوان :"الهروب من الموت" ، حيث يتناول هيوغ ايكين التطورات على صعيد أزمة اللاجئين السوريين وموجات الهروب الكبير لأوروبا والتي تعد الأكبر منذ الحرب العالمية الثانية.
فالتحدي الأخطر للقارة الأوروبية لم يعد حسبما تقول المستشارة الألمانية انجيلا ميركل يتمثل في أزمة الديون اليونانية وإنما في تلك الموجات المتتابعة من السوريين الباحثين عن ملاذات آمنة في القارة العجوز هروبا من جحيم يستعر في بلادهم .
وما حدث ويحدث في سوريا قد لا يكون بعيدا عن إشارة الدكتور علي فخرو الى مسألة استغلال مطالب شعبية مشروعة بخلط الأوراق لتشويه اصل المسألة برمتها والانتقال "لمرحلة التدمير الممنهج للدولة الوطنية ومجتمعها فالدخول في " طوفان التقاتل بين المكونات الإثنية والدينية والمذهبية والثقافية والسياسية" حتى تنقلب الحياة الى جحيم لا يطاق "ليبدأ التفكير في طرح حلول مغموسة بالدم والدموع" معتبرا انها في اغلبها حلول مؤقتة بانتظار الدخول في حروب وصراعات جديدة.
وبينما تعربد الطائرات الأجنبية في سماء سوريا بدا هذا البلد العربي الذي كان طرفا رئيسا في حرب السادس من أكتوبر وكأنه يتحول لمختبر لعلاقات الشد والجذب بين القوى الكبرى في عالم اليوم وتقاسم الأدوار ومناطق النفوذ بين الفرقاء الكبار و"تجليات فائض القوة والبحث عن مجالات حيوية جديدة" بعد أن منح الإرهاب العميل الفرصة والذريعة لتلك القوى الخارجية لتفعل أفاعيلها في سوريا والعالم العربي الذي كان جسدا واحدا منذ 42 عاما في حرب السادس من أكتوبر.
ولن تنسى الذاكرة القومية والتاريخية العربية المقولة التي اطلقها رئيس الأركان السوري اللواء يوسف شكور أثناء نقاش حول ساعة الصفر لحرب السادس من أكتوبر ومدى ملائمة التوقيت للجيشين المصري والسوري من انه "اذا سقطت دمشق لن تسقط الأمة العربية ولكن لو سقطت القاهرة ستسقط الأمة العربية كلها".
وينذر المشهد السوري الراهن بمدى خطورة التلاعب بالهويات والمخزون العرقي والطائفي وتعميق الكراهية بين مكونات الشعب الواحد وتنمية ثقافة التباغض والتنابذ المجتمعي فيما يتحول الأبرياء من أبناء سوريا لوقود لهذه اللعبة الخطرة ضمن "لعبة الأمم" وتعبيرات حقائق القوة في عالم اليوم والتحولات العصيبة والمخاض الصعب من نظام عالمي تتقوض أسسه لنظام عالمي جديد لم تستقر ملامحه الحقيقية بعد .
ولعل من أسوأ مظاهر المسألة السورية التي باتت من اكثر أزمات العالم مآساوية ان تتحول شعارات جذابة ومباديء سامية مثل الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان الى سلاح يفتك بسيادة الدولة ووحدة أراضيها وتهجير شعبها وتحويله الى كائنات تبحث عن ملاذات أمنة بين أربعة أركان المعمورة.
وفي الذكرى الثانية والأربعين لحرب السادس من أكتوبر المجيدة ما زالت مصر وفية لدورها التاريخي ورسالتها الحضارية وعقيدتها الوطنية والقومية وهي التي حذرت مبكرا من مخاطر الإرهاب وأكدت على ضرورة محاربته بصورة شاملة كما دعت لحل سياسي يضمن سيادة سوريا ووحدة أراضيها ويحفظ استقلالها وامنها.
وفيما دعت مصر "لإقامة نظام عربي إقليمي جديد باعتباره ضرورة استراتيجية" كان وزير الخارجية سامح شكري قد لفت في كلمة بمنتدى "حوار المنامة" العاشر لأهمية الا يكون تجديد النظام الإقليمي العربي قائما على أساس اي من المحاور التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في العقود الأخيرة.
وأوضح شكري أن أهداف هذا النظام العربي الإقليمي الجديد مواجهة تحديات العصر وتحقيق التنمية والإعداد لتمكين الجيل الجديد فيما يأتي هذا الطرح معبرا عن حالة حراك حميد على مستوى الفكر والعمل للسياسة الخارجية المصرية واستعادة الدبلوماسية المصرية العريقة لمفهوم المبادرة بما يخدم مصر وامتها العربية معا.
وتأتي هذه الدعوة المصرية لإقامة نظام عربي جديد في وقت تتردد فيه التساؤلات حول اتجاهات النظام العالمي وما اذا كان هناك نظام عالمي جديد تتشكل ملامحه بالفعل على نحو ما قال المفكر الاستراتيجي الأمريكي هنري كيسنجر في كتابه الجديد "النظام العالمي" والذي جاء معبرا عن نظرة رجل جمع ما بين نظريات الاستراتيجية وخبرات العمل كوزير للخارجية ومستشار للأمن القومي.
ولا جدال أن كيسنجر "رجل التنظير والعمل معا" احد ابرز من وضعوا أسس النظام العالمي إبان الحرب الباردة بل ومرحلة تالية لنهاية هذه الحرب في مطلع تسعينيات القرن الماضي فيما يسعى بوضوح في كتابه الجديد للإجابة على اسئلة حول النظام العالمي الجديد الذي يتوجب على الولايات المتحدة أن تتبناه وتعمل على تطبيقه او بمعنى اكثر صراحة "تفرضه على العالم".
فأمريكا حسب هذا التصور الكيسنجري تقوم بالدور الأكثر أهمية في صياغة "منظومة القيم" التي تتحول "لمنظومة قيم عالمية" او قيم مشتركة للإنسانية تكون "قوام الشرعية الدولية" ومن يخرج عليها يحق عليه العقاب.
وغير خاف على كل ذي عينين أن "ثعلب السياسة الأمريكية العجوز" الذي كان حاضرا في المشهد غداة حرب السادس من أكتوبر يرمي بهذا التنظير الجديد للحفاظ على قيادة أمريكا للنظام العالمي القادم والذي تتشكل ملامحه بالفعل فيما ستكون ملامحه النهائية هي محصلة نتائج المواجهة البالغة التعقيد والتشابك والدهاء بين الولايات المتحدة والقوة الصينية الصاعدة بينما لا يمكن اغفال قوى اخرى تتموضع في مواقع مختلفة مثل روسيا والاتحاد الأوروبي.
وهنا يكون السؤال الذي يهمنا كعرب :"اين موقعنا وموقع النظام العربي الإقليمي المنشود مما يحدث على المستوى الكلي في العالم"؟!..فلئن كان هناك من يذهب الى أن المشهد الإقليمي العام في المنطقة العربية لم يكن ابدا أسوأ مما هو عليه الآن فان هناك اتفاقا عاما بين اغلب المثقفين المصريين والعرب عامة على أن الإرهاب هو العامل الرئيس في تردي هذا المشهد العربي وانهاك مكونات القوة العربية الشاملة.
وكان وزير الخارجية سامح شكري قد أشار في سياق كلمته بمنتدى المنامة العاشر في العاصمة البحرينية الى الضرورة القصوى للتصدي لتنظيم داعش الإرهابي في المهد وان يكون ذلك ضمن استراتيجية شاملة لمحاربة جميع التنظيمات متشابهة الفكر في المنطقة وان يكون الهدف هو القضاء عليها عسكريا وفكريا.
أرسل تعليقك