من أصل ثمانية مسارح أثرية سورية مكتشفة حتى الآن يبرز مسرح جبلة الاثري كمعلم تاريخي ما زال بحالة سليمة إلى حد مقبول ليشغل الموقع الثاني من بينها لجهة سلامة بنيانه واستيعاب المتفرجين من بين مسارح بصرى ودرعا وتدمر وشهبا وأفاميا وموقع هوري “سيروس” وبانياس.
وأشار الباحث يونس خير بك في حديث لنشرة سانا الثقافية إلى أن المسرح يقع وسط مدينة جبلة الحديثة وفي الجهة الشرقية من المدينة القديمة بجوار السور الروماني كما هو الحال في موقع مسرحي بصرى وجرش الجنوبي.
وعن واقع المسرح وتاريخ بنائه يرجع بعض المؤرخين تاريخ بنائه إلى عهد الامبراطور جوستنيان ولكن هذا غير مؤكد حتى الآن فمن خلال الدراسة المعمارية لمسقطه وزخارفه الهندسية يمكن ان نرجع تاريخ بنائه الى القرن الثاني الميلادي حيث ذكر معظم المؤرخين والجغرافيين أن الخليفة الأموي معاوية بن أبي سفيان بنى حصنا في جبلة خارج الحصن الرومي القديم ويستنتج من ذلك بان الروم البيزنطيين حولوه الى قلعة للدفاع عن المدينة أثناء الفتح العربي الاسلامي لمدينة جبلة ويبدو انه بقي قلعة حتى في الفترة الصليبية والايوبية والمملوكية ويدل على ذلك من خلال الأبنية المضافة والقطع الاثرية من فخار ونقود ظهرت أثناء أعمال التنقيب.
وزاره عدد من الباحثين والرحالة بحسب ما اوضحه خير بك منهم المؤرخ أرنست رينان عام 1860 فوجده بحالة جيدة ويبدو انه بعد هذا التاريخ امتدت اليه يد العابثين ويشهد بذلك المؤرخ رينيه دوسو عقب زيارته للمدرج عام 1895 لأن حالته ازدادت سوءا ربما بسبب الزلازل المتلاحقة التي تعرضت لها المنطقة إضافة إلى عبث الأهالي بحجارته وأعمدته وامتداد يد الانسان إليه لتأخذ الحجارة المشذبة بقصد بناء البيوت وهذا ساعد على تشويه المسرح حيث بات مكبا للقمامة والأنقاض.
ومن المؤكد أن المسرح استخدم حصنا في الأدوار الإسلامية ومنه اطلق على المكان اسم القلعة الذي بات المسرح يعرف به إلى يومنا هذا وهذا التحويل نجد ما يماثله في مسرح بصرى أيضا كما تفيدنا شهادة شيخ الربوة الدمشقي حين زار جبلة فقال” بأنه كان فيها مقر لملك به سرداب يركب الراكب فيه تحت الأرض إلى ظهر السفينة بالبحر.
وأشار خير بك إلى أن المسرح يوافق بتصميمه العام ما هو معروف عن مسارح العالم الكلاسيكي حيث يتسع الى ثمانية آلاف متفرج وهذا يدل على ان مدينة جبلة في العصر الروماني كانت من المدن الأكثر أهمية بالمقارنة مع المدن الاخرى المعاصرة لها.
ووصف خير بك المسرح بأنه مبني على أقواس وعقود بشكل هندسي دقيق يتألف المستوى السفلي من 13 والمتوسط من 12 درجة أما العلوي فلم يبق منه سوى أربع درجات ويعتقد أن العدد الإجمالي للدرجات 35 درجة وتنتهي الدرجة الاخيرة برواق معمد مسقوف كمسرح بصرى وتؤمن التواصل داخل المسرح وعلى الدرجات بوساطة الرواق الرئيسي الذي يغطي المسرح بشكل دائري.
ويدل بناء المسرح وتنظيم مدرجاته وعقوده وأروقته ومواد بنائه وتزييناته الحجرية على مهارة هندسية تشير الى عبقرية ذلك العصر ولذلك استحق قول أحد مرافقي بعثة ارنست رينان أانه أجمل الآثار الرومانية على الساحل الفينيقي.
ويتألف المسرح من الهيكل العام والرئيسي من قسمين وهما المنصة وأماكن المتفرجين وتفصل كل قسم عن الاخر ساحة الاوركسترا وتقسم المنصة بدورها إلى خشبة المسرح وغرف الملقنين والكواليس كما تقسم أماكن المتفرجين الى القسم السفلي والأوسط والعلوي والممرات والأدراج الشعاعية والأروقة الداخلية والمداخل.
وفي عام 1999 بحسب الباحث خير بك قامت بعثة اثرية سورية بلجيكية مشتركة بأعمال توثيق المسرح بوضعه الراهن فقط دون الدخول بأعمال الترميم أو التنقيب أما في عام 2006 فبدأت أكبر عملية كشف وتنقيب وترميم وتأهيل في تاريخ المسرح واستمر العمل حتى عام 2010 مبينا أنه تم خلالها كشف جميع الأروقة الشعاعية والدائرية بإزالة كافة الردميات والانقاض المتراكمة عبر الزمن من خلال الكشف حتى عمق اربعة أمتار وظهرت الأرضية الأصيلة للأروقة وهي عبارة عن بلاطات من الحجر الكلسي بأبعاد واحد ضرب واحد متر تقريبا.
وأشار خير بك إلى أنه تم العثور خلال الترميم على أهم القطع الأثرية المكتشفة في أعمال التنقيب بالمسرح واولها قالب صب الذهب الذي يعود للعصر المملوكي اضافة الى قطعة نقدية من فئة الفلس نحاسي قطره 1ر2 سم الوجه الامامي عليه مشهد بشكل رأس الامبراطور يعلوه تاج مع ربطة للرأس يحيط به شريط كتابي باللغة اللاتينية يشير إلى قسطنطين الثاني سنة 337-361 ميلادي والوجه الخلفي عليه مشهد يرمز الى تسلم الامبراطور من جوبييتر احدى ربات النصر ضمن اطار كتابي يشير الى وجود معاهد عسكرية.
يشار إلى أن المدرج يستضيف ثلاثة مهرجانات سنويا منذ عام 2007 وهي مهرجان طريق الحرير ومهرجان جبلة الثقافي ومهرجان المحبة.
أرسل تعليقك