القاهرة - أ ش أ
تشكل التطورات الحالية في الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" صفحة هامة ودالة في الجهود العالمية لبناء ثقافة مضادة للفساد ومن الواضح لكل ذي عينين أن قصة جوزيف بلاتر رئيس هذا الاتحاد والبالغ من العمر 79 عاما لم تنته بعد باعلانه الاستقالة من رئاسة الفيفا وانما هي قصة "لها مابعدها".
وفي اشارة لمدى توغل الفساد داخل الفيفا وقسوة تحديات الاصلاح تقول مارينا هايد في صحيفة الجارديان البريطانية قد يكون بلاتر قد ذهب حقا لكن المؤكد أن آليات الفساد مازالت باقية كما ان التحقيقات في هذا الفساد أسهل بكثير جدا من اصلاح الفيفا.
ومع ذلك فألغاز وطلاسم الفساد داخل الفيفا بدأت تجد من يحلها كما تقول مارينا هايد ومن ثم فلا يجوز التخلي عن الأمل في الوصول لجذور الفساد واستئصالها من الفيفا التي تهيمن عالميا على "الساحرة المستديرة".
وإذا كانت قصة بلاتر داخل امبراطورية الفيفا تشكل صفحة دالة في اشكالية الفساد فواقع الحال أن قضية تطوير ثقافة مضادة للفساد مطروحة عالميا فيما يعكف باحثون على بحث الجوانب المتعددة لهذه القضية.
وفي دورية هارفارد للقانون، تناول البروفيسور روبرت باير ظاهرة تعددية انواع الفساد والوانه في سياق اهتمام أمريكي واضح بهذه الاشكالية وسبل مواجهتها عبر الرقابة واستحداث لوائح جديدة إلى جانب عناية ملحوظة بمسألة التعريفات للفساد ومرادفاته ومظاهره.
غير أن أهم مايركز عليه باير وغيره من اساطين القانون في السياق الأمريكي قضية كشف الفساد وسط اتفاق عام على ان الفساد يتخذ اشكالا بالغة التعقيد وقد يتخفى حتى في أنبل الصور وبما لايمكن أن تصل إليه يد القانون مهما تعددت اللوائح والأنظمة الرقابية.
وتتجلى هذه المعضلة في قضايا شهدتها الولايات المتحدة وغيرها من الدول حيث يكاد القاضي يجزم بأن المتهم الماثل امامه فاسد غير انه قد يحكم ببراءته للافتقار للأدلة الكافية وهي معضلة يعكف البروفيسور آدم سماحة على محاولة حلها في سياق الثقافة القانونية الأمريكية ومن منظور يقر بأن معضلة كهذه تشكل نقطة ضعف في الفقه القانوني للولايات المتحدة.
فالمطلوب أن تظهر وقائع الفساد مجسدة بوضوح في ظاهر الأوراق أمام القاضي في قضايا الفساد المتنوعة والتي باتت تشمل مجالات متعددة حقا لتشمل حتى لعبة بريئة في اصلها وجوهرها النقي وهي لعبة كرة القدم الأكثر شعبية في العالم !.
وجوزيف سيب بلاتر المعروف اختصارا باسم سيب بلاتر هو اداري كروي سويسري شغل منصب رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم المعروف اختصارا "بالفيفا" خلال الفترة من الثامن من يونيو عام 1998 وحتى استقالته في الثاني من يونيو عام 2015 وهو ثامن رئيس للفيفا.
وفيما رجح كثير من النقاد والكتاب الذين تصدوا لبحث ماوراء استقالة بلاتر "ان هناك شيئا خطيرا للغاية حدث واجبر هذا السويسري العنيد والمراوغ على التخلي عن عرش امبراطورية "الفيفا" تتوالى الأنباء وتقارير وكالات الأنباء ووسائل الأعلام العالمية لتشير أيضا الى تجاوزات اخلاقية لبلاتر تضمنت "مغازلة فجة" لصديقة جون ديلاني الرئيس التنفيذي للاتحاد الايرلندي لكرة القدم.
ولن يكون من قبيل المبالغة القول أن "تركة بلاتر في الفيفا" تتعارض بصورة صارخة مع ماقاله عالم السياسة الأمريكى الشهير فرانسيس فوكوياما وصاحب كتاب نهاية التاريخ بشأن "برصيد الثقة او رأس المال الحضارى" وهو القواعد والقيم الأخلاقية غير المكتوبة التى تتيح لأفراد جماعة ما ان يثقوا فى بعضهم البعض.
وإذا كان العديد من المعنيين بقضايا مكافحة الفساد يتفقون على أن "الفساد بات ظاهرة عالمية " فلعل "ثقافة ماعت" التي ابدعها المصري القديم بحسه الحضاري المنحاز للحق والخير والجمال تسهم في مواجهة هذه الاشكالية ذات الطابع العالمي.
ومع تفجر فضائح الفيفا وقصص الرشاوي للقائمين على ادارة هذه الامبراطورية الرياضية العالمية ناهيك عن عمليات التوقيف لمسؤولين بالفيفا من مساعدي بلاتر استعاد نقاد رياضيون مصريون مثل الناقد المرموق حسن المستكاوي بعض الوقائع الدالة عندما تقدمت مصر لاستضافة مونديال 2010 ولم تحصل على صوت واحد بينما نالت جنوب افريقيا حق استضافة هذه البطولة الكروية العالمية.
وذهب حسن المستكاوي الى ان "الرشوة ضاربة في جذور الفيفا " مشيرا الى اعتراف الأمريكي تشاك بليزر العضو السابق باللجنة التنفيذية للفيفا بتقاضيه رشاوى للتصويت في مونديالي 1998 و2010 فيما اكد هذا الناقد الرياضي المصري على ان فرص المغرب للفوز بشرف استضافة بطولة كاس العالم لعام 2010 كانت تبدو كبيرة "ثم انتقل هذا التفوق في ظلام الليل إلى جنوب افريقيا".
ويتكهن بعض المعلقين بأن التحقيقات الأمريكية التي اقتربت من التوصل لأدلة دامغة بشأن تورط سيب بلاتر في وقائع فساد شابت منح جنوب افريقيا فرصة استضافة مونديال 2010 كانت وراء قراره المفاجيء بالاستقالة من رئاسة الفيفا.
وباتت التحقيقات الأمريكية واجبة بعد ان ازيح الستار عن قيام جنوب افريقيا بدفع رشاوى قيمتها 10 ملايين دولار لمسؤولين في اتحاد كرة القدم لأمريكا الشمالية والوسطى والكاريبي "الكونكاكاف" وهم ايضا اعضاء في اللجنة التفيذية للفيفا فيما يقع مقر "الكونكاكاف" في ميامي بولاية فلوريدا الأمريكية.
ورغم التقارير العديدة في الصحافة الغربية ووسائل الاعلام العالمية حول استشراء الفساد داخل الفيفا وتأكيدات كاتبة مثل مارينا هايد في صحيفة الجارديان على ان "الهياكل الرئيسية والأبنية المؤسسية للفيفا تعاني من فساد ممنهج" فقد رأى المهندس هاني ابو ريدة عضو المكتب التنفيذي للاتحادين الدولي والافريقي لكرة القدم في مقابلة مع صحيفة الأهرام امس "الجمعة" ان "الفساد ليس داخل الفيفا نفسه بل في اتحادات امريكا الجنوبية والوسطى".
واضاف هاني ابو ريدة ان بلاتر تعرض لضغوط مكثفة من جانب بعض الدول والكيانات الكبرى التي اجبرته على الاستقالة مؤكدا في الوقت ذاته على انه لايمكن ان يدافع عن اي فساد مهما كان حجم فاعله.
لكن المهندس ابو ريدة لم يوضح طبيعة هذه الضغوط ضد بلاتر الذي وصفه الناقد حسن المستكاوي بأنه "يقول الكلام ويفعل عكسه ويتلاعب بالكلمات" فيما اعتبر انه سيكون من الصعوبة بمكان سحب مونديالي 2018 و2022 من روسيا وقطر "لأن هناك مصالح حكومية بين الدول تؤثر على قرار سحب البطولة من الدولتين".
وفي الوقت ذاته ذهب جاك وارنر الرئيس السابق للكونكاكاف والنائب السابق لرئيس الفيفا الى ان الولايات المتحدة تحاول الانتقام من الفيفا لعدم حصولها على شرف تنظيم مونديال 2022 ولم يتورع عن انتقاد حكومة بلاده ترينداد وتوباجو معتبرا انها "تتحالف مع واشنطن للاضرار بصورته" وطالت هذه الانتقادات النائب العام التريندادي جارفين نيكولاس.
ويبدو ان هناك حاجة ماسة بالفعل للاستفادة من ثقافة المصريين القدامى لارساء العدل والفضيلة والصدق والحق وهي ثقافة عبرت عنها الكلمة المصرية القديمة "ماعت" والتي تبدو اليوم ترياقا مطلوبا لكثير من القضايا على مستوى العالم ككل.
فكلمة "ماعت" تعبر عن فلسفة ضاربة فى الجذور التاريخية للمصريين فيما انتبه لها بعض كبار المثقفين في العالم المعاصر حتى ان مفاهيم مشتقة من " ثقافة ماعت" طرحت كسبيل لعدم تكرار الأزمة المالية العالمية الأخيرة بتداعياتها وتوابعها الخطيرة التي مازالت محسوسة على نحو او اخر حتى اللحظة الراهنة.
وهذا المفهوم المصرى القديم يتسع ليشمل ايضا السبل اللائقة التى ينبغى ان يتعامل بها الناس مع بعضهم البعض بما فى ذلك التداين اضافة للنظام الاجتماعى السليم والعلاقة بين الأحياء والموتى جنبا الى جنب مع معايير السلوك العادل والصادق والاخلاقى.
وتشمل تلاوين كلمة ماعت وظلالها الطريقة التى ينبغى ان تكون عليها الأشياء فيما يعنى عكسها ونقيضها الفوضى بالمعنى المادى والانانية والافتراء والكذب والممارسات الشريرة على وجه العموم وكل مايجافى ناموس الحق.
ويلاحظ الكاتب الصحفي صلاح منتصر انه "من المفارقات ان الولايات المتحدة وهي دولة لاتهتم كثيرا بكرة القدم المعروفة ولديها اربع رياضات على الأقل تفوق كرة القدم شعبيا" هي التي اضطرت لاقتحام امبراطورية الفيفا الضخمة التي لامثيل لها في عدد اعضائها البالغين 206 دول وتسيطر على مواج أهم لعبة يعشقها العالم وصرفت في السنوات الأربع السابقة قرابة ستة مليارات دولار.
ورغم محاولات سابقة وحملات صحفية شنتها صحف لها ثقلها مثل صحيفة التايمز البريطانية ضد الفيفا وبلاتر الا انه لم يكن هناك الدليل وهو مانجحت اجهزة التحقيق الأمريكية-كما يقول صلاح منتصر-في التوصل اليه واتهام 14 من كبار معاوني بلاتر واخيرا ضمت اليهم بلاتر نفسه.
وإذ تتداخل جهات وكيانات عديدة في قصة بلاتر مثل مكتب التحقيقات الفيدرالية في الولايات المتحدة وروسيا وقطر اللتين وقع عليهما اختيار الفيفا من قبل لاستضافة مونديالي 2018 و2022 والميديا الدولية والرعاة والمعلنين ونجوم لمعت في سماء الساحرة المستديرة مثل ميشيل بلاتيني الرئيس الحالي للاتحاد الأوروبي لكرة القدم فان هذا التداخل يظهر مدى اهمية الموقع الذي تحتله لعبة كرة القدم في عالم اليوم.
كما تظهر قصة بلاتر الذي استمر في منصبه كرئيس للفيفا على مدى نحو 17 عاما ان بقاء المسؤول في مهام منصبه لفترة طويلة قد يكون عاملا من العوامل التي تفضي لانتشار الفساد بما يغطي في نهاية المطاف على اي ايجابيات حققها في موقعه القيادي مثل الايجابيات التي حققها سيب بلاتر على صعيد تشجيع كرة القدم النسائية .
ومع فتح ملفات الفساد في الفيفا يبدو ان الصواب لم يجانب تماما هؤلاء الذين يرون ان العولمة انتهكت براءة الأيام الخوالى لكرة القدم وحولتها الى سلعة وصناعة هائلة تجور على المتعة .
فوسط جدل مستمر ومتصاعد حول "المتعة والتجارة فى عالم الساحرة المستديرة" تفعل العولمة افاعيلها فى عالم الساحرة المستديرة وترتفع أسعار اللاعبين المحترفين لأرقام قد تصيب البعض بالدوار فيما كان "شيخ مدربى غانا" تشارلز كومى جيامفى قد شارك فى هذا الجدل مثيرا حنينا" للزمن الجميل" وقال :"ان الجيل الحالى من اللاعبين لم يعد يهمه سوى المال بدلا من جلب المفاخر الرياضية لبلاده".
وبالنسبة للاعب له مكانته العزيزة فى الذاكرة الكروية المصرية مثل "المايسترو صالح سليم" نجم نجوم فريق الأهلى ومصر فى سنوات الخمسينات والستينيات من القرن العشرين فانه كان يهيم عشقا بالساحرة المستديرة بل ومنحها حياته كلها دون ادنى اهتمام بمسألة المال ليستحق عن جدارة حب الملايين حيا وميتا فيما انتقد "المايسترو" مرارا ظاهرة تنامى الاهتمامات المادية للاعبين واستغلال الأضواء لتحقيق الثراء السريع على حساب "قيمة المتعة الكروية".
ورغم ان كرة القدم حلم ممتد بالبهجة فان بعض الظواهر التى اقترنت باللعبة الشعبية الأولى في العالم مثل الفساد في الاتحاد الدولي لكرة القدم قد تدفع البعض للقول :"كم من الجرائم ترتكب باسم الساحرة المستديرة"!.
وكذلك فإن اصواتا تتردد هنا وهناك بقوة مؤكدة ان على الفيفا الاهتمام بقضايا خطرة وملحة مثل ظاهرة "مهربى الكرة تحولت الى دموع فى عيون افريقيا" رغم الوعود الخلابة والكلمات المعسولة التى تتحدث عن مليارات الدولارات سيمطرها الشمال الغنى على القارة السمراء بفضل كنوزها الكروية!.
ورويدا رويدا-تحول الضحايا من اطفال افريقيا الى وصمة عار على جبين الشمال الغنى على حد وصف صحفيين اوروبيين تصدوا لفضح هذه الظاهرة مثل الصحفى كليف مايرى الذى سعى لتسليط اضواء كاشفة على "ظاهرة مهربى الكرة فى القارة العجوز" فيما لايحرك الفيفا ساكنا.
ويقول كليف مايري :"اذا كان هناك العديد من الافارقة يهيمون على وجوههم فى اوروبا كمهاجرين من اجل لقمة العيش فان هناك الان لاعبين افارقة صغار يعانون من اسوأ الظروف فى مدن اوروبا كضحايا لمهربى الكرة.
وهكذا يتبدى احد الجوانب المظلمة لعولمة الكرة- التي شجعها سيب بلاتر بقوة- فى تلك الفئة التى تسمى "بمهربى الكرة" والتى تستغل احلاما مشروعة لصبية افارقة موهوبين كرويا ويرغبون فى حياة افضل بعيدا عن واقع بائس فتشحنهم الى اوروبا وكثيرا مايتخلى "مهربو الكرة" عن هؤلاء الصبية ليتركوهم وحدهم يعانون من ظروف بالغة القسوة بعيدا عن عائلاتهم التى حلمت بالثراء بفضل المواهب الكروية للابناء.
فهل تضع نهاية قصة بلاتر داخل امبراطورية الفيفا النهاية لهذه الظواهر المحزنة وتبتسم الساحرة المستديرة مجددا تحت شمس مشرقة ام ان الأهوال لم تنته بعد والفساد ليس له آخر ؟!
أرسل تعليقك